فصل: باب الْكِسْوَةِ لِلأسَارَى

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: شرح صحيح البخاري لابن بطال ***


باب التَّكْبِيرِ عِنْدَ الْحَرْبِ

فيه‏:‏ أَنَس، صَبَّحَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم خَيْبَرَ، وَقَدْ خَرَجُوا بِالْمَسَاحِى عَلَى أَعْنَاقِهِمْ، فَلَمَّا رَأَوْهُ قَالُوا‏:‏ هَذَا مُحَمَّدٌ وَالْخَمِيسُ، فَلَجَئُوا إِلَى الْحِصْنِ، فَرَفَعَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم يَدَيْهِ، وَقَالَ‏:‏ ‏(‏اللَّهُ أَكْبَرُ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏

قال المهلب‏:‏ إنما فعل النبى هذا استشعارًا لكبرياء الله على ما تقع عليه العين من عظيم خلقه وكبير مخلوقاته أنه أكبر الأشياء وليس ذلك على معنى أن غيره كبير وإنما معنى قولهم‏:‏ الله أكبر‏:‏ الله الكبير، هذا قول أهل اللغة، وقال معمر عن أبان‏:‏ لم يعط أحد التكبير إلا هذه الأمة، وكذلك يفعل صلى الله عليه وسلم فى أسباب الجبال، ورفع اليدين فى الدعاء، والتكبير استسلام لله تعالى وتبرؤ من الحول والقوة إليه، وقد روى سفيان، عن أيوب فى هذا الحديث ‏(‏حالوا إلى الحصن‏)‏ أى‏:‏ حولوا إليه‏.‏

يقال‏:‏ حلت عن المكان إذا تحولت عنه و ‏[‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏]‏ حلت عنه‏.‏

باب مَا يُكْرَهُ مِنْ رَفْعِ الصَّوْتِ بالتَّكْبِيرِ

فيه‏:‏ أَبُو مُوسَى، كُنَّا مَعَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم فَكُنَّا إِذَا أَشْرَفْنَا عَلَى وَادٍ هَلَّلْنَا وَكَبَّرْنَا، ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُنَا، قَالَ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ، ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، إِنَّكُمْ لا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلا غَائِبًا، إِنَّهُ مَعَكُمْ إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ إنما نهاهم- والله أعلم- عن رفع الصوت إبقاء عليهم ورفقًا بهم؛ لأنهم كانوا فى مشقة السفر فأراد‏:‏ اكلفوا من العمل ما تطيقون وكان بالمؤمنين رحيمًا، ثم أعلمهم أن الله يعلم خفى كلامهم بالتكبير كما يسمع عاليه؛ إذ لا آفة تمنعه من ذلك؛ لأنه سميع قريب‏.‏

قال الطبرى‏:‏ فى هذا الحديث من الفقه كراهية رفع الصوت بالدعاء وهو قول عامة السلف من الصحابة والتابعين، حدثنى يعقوب ابن إبراهيم، حدثنى إسماعيل، عن هشام، حدثنى قتادة، عن الحسن، عن قيس بن عبادة قال‏:‏ ‏(‏كان أصحاب رسول الله يكرهون رفع الصوت عند ثلاثة مواطن‏:‏ عند الذكر، وعند القتال، وعند الجنائز‏)‏‏.‏

وروى يحيى بن سعيد، حدثنا هشام، عن قتادة، عن الحسن، عن قيس بن عبادة قال‏:‏ ‏(‏كان أصحاب رسول الله يكرهون رفع الصوت ورفع الأيدى عند القتال، والدعاء‏)‏‏.‏

قال سعيد بن أبى عروبة‏:‏ حدثنا قتادة، عن سعيد بن المسيب قال‏:‏ ‏(‏ثلاث مما أحدث الناس‏:‏ رفع الصوت عند الدعاء، ورفع الأيدى، واختصار السجود‏)‏ وذكر عن مجاهد أنه رأى رجلا يرفع صوته بالدعاء فحصبه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏أربعوا على أنفسكم‏)‏ ففى كتاب الأفعال‏:‏ ربع به‏:‏ رفق به، وربع عن الشيء‏:‏ كف عنه، ومنه قيل‏:‏ أربع على نفسك‏.‏

باب التَّكْبِيرِ إِذَا عَلا شَرَفًا

فيه‏:‏ جَابِر، كُنَّا إِذَا صَعِدْنَا كَبَّرْنَا، وَإِذَا نَزلنا سَبَّحْنَا‏.‏

وفيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، كَانَ صلى الله عليه وسلم إِذَا قَفَلَ مِنَ الْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ- وَلا أَعْلَمُهُ إِلا قَالَ‏:‏ الْغَزْوِ- يَقُولُ‏:‏ كُلَّمَا أَوْفَى عَلَى ثَنِيَّةٍ أَوْ فَدْفَدٍ، كَبَّرَ ثَلاثًا، ثُمَّ قَالَ‏:‏ ‏(‏لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، آيِبُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ سَاجِدُونَ، لِرَبِّنَا حَامِدُونَ، صَدَقَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَهَزَمَ الأحْزَابَ وَحْدَهُ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ تكبيره عند إشرافه على الجبال استشعار لكبرياء الله عندما تقع عليه العين من عظيم خلقه أنه أكبر من كل شيء تعالى وقد تقدم هذا فى باب التكبير عند الحرب‏.‏

وأما تسبيحه فى بطون الأودية فهو مستنبط من قصة يونس صلى الله عليه وسلم وتسبيحه فى بطن الحوت، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فلولا أنه كان من المسبحين للبث فى بطنه إلى يوم يبعثون ‏(‏فنجاه الله بذلك من الظلمات فامتثل النبى صلى الله عليه وسلم هذا التسبيح فى بطون الأودية؛ لينجيه الله منها ومن أن يدركه عدوه، وقد قيل‏:‏ إن تسبيح يونس كان صلاة قبل أن يلتقمه الحوت فروعى به فضلها، الأول أولى بدليل تسبيح الرسول فى بطون الأودية وكل منخفض‏.‏

وقال غيره‏:‏ معنى تسبيحه فى بطون الأودية وما انخفض من الأرض أنه لما كان التكبير لله تعالى عند رؤية عظيم مخلوقاته وجب أن يكون فيما انخفض من الأرض تسبيح لله؛ لأن التسبيح فى اللغة تنزيه الله عن صفات الانخفاض والضعة‏.‏

قال ابن الأنبارى‏:‏ سبحان الله‏:‏ تنزيه الله من الأولاد والصاحبة والشركاء‏.‏

وقال غيره‏:‏ سبحان الله‏:‏ براءة الله من ذلك‏.‏

قال أبو عبيد‏:‏ الفدفد‏:‏ المكان المرتفع فيه صلابة، والثنية‏:‏ أعلى مسيل فى رأس الجبل‏.‏

وقال صاحب العين‏:‏ الثنايا‏:‏ العقاب‏.‏

باب يُكْتَبُ لِلْمُسَافِرِ مِثْلُ مَا كَانَ يَعْمَلُ فِى الإقَامَةِ

فيه‏:‏ أَبُو بُرْدَةَ، أنَّهُ اصْطَحَبَ وَيَزِيدُ بْنُ أَبِى كَبْشَةَ فِى سَفَرٍ، فَكَانَ يَزِيدُ يَصُومُ فِى السَّفَرِ، فَقَالَ لَهُ أَبُو بُرْدَةَ‏:‏ سَمِعْتُ أَبَا مُوسَى مِرَارًا، يَقُولُ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إِذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ، كُتِبَ لَهُ مِثْلُ مَا كَانَ يَعْمَلُ صَحِيحًا مُقِيمًا‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ أصل هذا فى كتاب الله، قال تعالى‏:‏ ‏{‏لقد خلقنا الإنسان فى أحسن تقويم ‏(‏إلى‏)‏ الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون ‏(‏أى‏:‏ غير مقطوع، يريد أن لهم أجرهم فى حال الكبر والضعف عما كانوا يفعلونه فى الصحة غير مقطوع لهم؛ فلذلك كل مرض من غير الزمانة وكل آفة من سفر وغيره يمنع من العمل الصالح المعتاد؛ فإن الله قد تفضل بإجراء أجره على من منع ذلك العمل بهذا الحديث‏.‏

قال المؤلف‏:‏ وليس هذا الحديث على العموم، وإنما هو لمن كانت له نوافل وعادة من عمل صالح فمنعه الله منها بالمرض أو السفر وكانت نيته لو كان صحيحًا أو مقيمًا أن يدوم عليها ولا يقطعها؛ فإن الله يتفضل عليه بأن يكتب له أجر ثوابها حين حبسه عنها، فأما من لم يكن له تنفل ولا عمل صالح فلا يدخل فى معنى الحديث؛ لأنه لم يمنعه مرضه من شيء فكيف يكتب له ما لم يكن يعمله‏؟‏ وما يدل أن الحديث فى النوافل ما روى معمر، عن عاصم بن أبى النجود، عن خيثمة، عن عبد الله بن عمرو قال رسول الله‏:‏ ‏(‏إن العبد إذا كان على طريق حسنة من العبادة، ثم مرض قيل للملك الموكل به‏:‏ اكتب له مثل عمله إذا كان طلقًا حتى أطلقه أو أكفته إلى‏)‏ وقوله‏:‏ ‏(‏إذا كان على طريق حسنة من العبادة‏)‏ لا يقال‏:‏ إلا فى النوافل، ولا يقال ذلك لمؤدى الفرائض خاصة؛ لأن المريض والمسافر لا يسقط عنهما صلوات الفرائض؛ فسنة المريض الجلوس، وسنة المسافر قصر الصلاة، فلم يبق أن يكتب للمريض والمسافر إلا أجر النوافل كما قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما من امرىء تكون له صلاة من الليل يغلبه عليها نوم إلا كتب له أجر صلاته، وكان نومه صدقة عليه‏)‏ وهذا لا إشكال فيه‏.‏

باب‏:‏ السير وحده

فيه‏:‏ جَابِر، نَدَبَ الرسول صلى الله عليه وسلم النَّاسَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، فَانْتَدَبَ الزُّبَيْرُ، ثلاثًا، قَالَ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إِنَّ لِكُلِّ نَبِىٍّ حَوَارِيًّا، وَحَوَارِىَّ الزُّبَيْرُ‏)‏‏.‏

قَالَ سُفْيَانُ‏:‏ الْحَوَارِىُّ‏:‏ النَّاصِرُ‏.‏

وفيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، قَالَ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا أَعْلَمُ، مَا سَارَ رَاكِبٌ بِلَيْلٍ وَحْدَهُ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ نهيه عن الوحدة فى سير الليل إنما هو إشفاق على الواحد من الشياطين؛ لأنه وقت انتشارهم وأذاهم للبشر بالتمثل لهم وما يفزعهم ويدخل فى قلوبهم الوساوس؛ ولذلك أمر الناس أن يحبسوا صبيانهم عند حدقة الليل، وأما قصة الزبير فإنما هى ليعرف أمر العدو، والواحد الثابت فى ذلك أخفى على العدو وأقرب إلى التجسس بالاختفاء والقرب منهم مع ما علم الله من نيته والتأييد عليها، فبعثه صلى الله عليه وسلم واثقًا بالله، ومع أن الوحدة ليست محرمة، وإنما هى مكروهة؛ فمن أخذ بالأفضل من الصحبة فهو أولى، ومن أخذ بالوحدة فلم يأت حرامًا، وقد تقدم الكلام فى حديث جابر والأحاديث المعارضة له فى باب‏:‏ ‏(‏هل يبعث الطليعة وحده‏)‏، وفى باب ‏(‏سفر الاثنين‏)‏ قبل هذا بأبسط من هذا وأتم، فأغنى عن إعادته‏.‏

باب السُّرْعَةِ فِى السَّيْرِ

وَقَالَ أَبُو حُمَيْدٍ‏:‏ عن الرسول صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إِنِّى مُتَعَجِّلٌ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَعَجَّلَ مَعِى فَلْيَتَعَجِّل‏)‏‏.‏

فيه‏:‏ أُسَامَةُ، سُئل عَنْ مَسِيرِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم فِى حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَقَالَ‏:‏ كَانَ يَسِيرُ الْعَنَقَ، فَإِذَا وَجَدَ فَجْوَةً نَصَّ- وَالنَّصُّ‏:‏ فَوْقَ الْعَنَقِ‏.‏

وفيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، أنَّهُ بَلَغَهُ بطريق مكة عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ أَبِى عُبَيْدٍ شِدَّةُ وَجَعٍ، فَأَسْرَعَ السَّيْرَ، وَقَالَ‏:‏ إِنِّى رَأَيْتُ رسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم إِذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ أَخَّرَ الْمَغْرِبَ‏.‏

وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنَ الْعَذَابِ، يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ نَوْمَهُ وَطَعَامَهُ وَشَرَابَهُ، فَإِذَا قَضَى أَحَدُكُمْ نَهْمَتَهُ، فَلْيُعَجِّلْ إِلَى أَهْلِهِ‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ أما تعجيله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة؛ فليخرج نفسه من عذاب السفر، وليفرح بنفسه أهله وجماعة المؤمنين بالمدينة‏.‏

وأما تعجيل السير إذا وجد فجوة حين دفع من عرفة؛ فليتعجل الوقوف بالمشعر الحرام ويدعو الله فى ذلك الموقف؛ لأن ساعات الدعاء فى ذلك الوقت ضيقة ولا تدوم ونادرة، إنما هى من عام إلى عام، وأما تعجيل ابن عمر إلى زوجته إنما هو ليدرك من حياتها من يمكنه أن تعهد إليه بما لا تعهد به إلى غيره، لئلا يحرمها ما تريده من طاعة الله فى عهدها، ومع ذلك فإنه كان يسرها بقدومه‏.‏

وفيه التواضع وترك التكبر‏.‏

باب إِذَا حَمَلَ عَلَى فَرَسٍ فَرَآهَا تُبَاعُ

فيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، أَنَّ عُمَرَ حَمَلَ عَلَى فَرَسٍ فِى سَبِيلِ اللَّهِ، فَوَجَدَهُ يُبَاعُ، فَأَرَادَ أَنْ يَبْتَاعَهُ، فَسَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ‏:‏ ‏(‏لا تَبْتَعْهُ، وَلا تَعُدْ فِى صَدَقَتِكَ فَإِنَّ الْعَائِدَ فِى صدقته كَالْكَلْبِ يَعُودُ فِى قَيْئِهِ‏)‏‏.‏

وفيه‏:‏ الحمل على الخيل فى سبيل الله‏.‏

وفيه‏:‏ أنه من حمل على فرس فى سبيل الله وغزا به فله أن يفعل به بعد ذلك ما يفعل فى سائر ماله، ألا ترى أن رسول الله لم ينكر على بائعه بيعه، وإنما أنكر على عمر شراءه‏.‏

واختلف العلماء فيمن حمل على فرس فى سبيل الله ولم يقل‏:‏ هو حبس فى سبيل الله، فروى مالك، عن ابن عمر أنه كان إذا أعطى شيئًا فى سبيل الله يقول لصاحبه‏:‏ إذا بلغت به وادى القرى فشأنك به‏.‏

قال أحمد بن حنبل‏:‏ إنما قال ذلك ابن عمر؛ لأنه كان يذهب إلى أن المحمول عليه إنما يستحقه بعد الغزو‏.‏

وكذلك قال سعيد بن المسيب‏:‏ إذا أعطى الرجل الشيء فى الغزو فبلغ به رأس مغزاته، فهو له‏.‏

وهو قول القاسم، وسالم، والثورى، والليث، قال الليث‏:‏ إلا أن يكون حبسًا فلا يباع‏.‏

والعلماء متفقون فى الحبس أنه لا يباع غير الكوفيين الذين لا يجيزون الأحباس‏.‏

وقال مالك‏:‏ من أعطى فرسًا فى سبيل الله وقيل له‏:‏ هو لك فى سبيل الله فله أن يبيعه، فإن قيل‏:‏ هو فى سبيل الله، ركبه ورده، ويكون موقوفًا عنده لحمل الغزاة عليه‏.‏

وقال أبو حنيفة والشافعى‏:‏ الفرس المحمول عليه فى سبيل الله هو تمليك لمن يحمل عليه‏.‏

وإن قيل له‏:‏ إذا بلغت به رأس مغزاتك فهو لك، كان تمليكًا على مخاطرة ولم يجز، وهى عندهم عطية غير بتلة؛ لأنها شرط قد يقع وقد لا يقع لجواز موته قبل بلوغه راس مغزاته ولم يملك منه شيئًا قبل ذلك‏.‏

وأما إذا قال له‏:‏ هو لك فى سبيل الله أو أحملك عليه فى سبيل الله فقد أعطاه إياه على شرط الغزو به، وهذا معنى قول ابن عمر وابن المسيب عند الكوفيين والشافعى، وسواء ذلك كله عند مالك؛ لأنه إذا قال له‏:‏ إذا بلغت به رأس مغزاتك فهو لك، فمعناه عنده أن لك أن تتصرف فيه حينئذ بما يتصرف به المالك، وقد صح له ملكه عند أخذه بشرط الغزو عليه‏.‏

واختلفوا فى كراهية شراء صدقة الفرض والتطوع إذا أخرجها من يده، فقال مالك فى الموطأ فى رجل تصدق بصدقة فوجدها تباع عند غير الذى تصدق بها عليه-‏:‏ تركها أحب إلىّ‏.‏

وكره الليث والشافعى ذلك، فإن اشتراها لم يفسخوا البيع، وكذلك قالوا فى شراء ما يخرجه الإنسان فى كفارة اليمين وإنما كرهوا شراءها بهذا الحديث، ولم يفسخوا البيع؛ لأنها راجعة إليه بغير ذلك المعنى ويشهد لهذا حديث بريرة فى اللحم الذى تصدق عليها به، وإجماعهم أن من تصدق بصدقة، ثم ورثها أنها حلال له، وقد تقصيت الكلام فى هذه المسألة فى باب ‏(‏هل يشترى الرجل صدقته‏)‏ فى ‏(‏كتاب الزكاة‏)‏ فتأمله هناك‏.‏

باب الْجِهَادِ بِإِذْنِ الأبَوَيْنِ

فيه‏:‏ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو، جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم فَاسْتَأْذَنَهُ فِى الْجِهَادِ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏أَحَىٌّ وَالِدَاكَ‏)‏‏؟‏ قَالَ‏:‏ نَعَمْ، قَالَ‏:‏ ‏(‏فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ هذا- والله أعلم- فى زمن استظهار المسلمين على عدوهم وقيام من انتدب إلى الغزو بهم مع أنه- والله أعلم- رأى به ضعفًا لم يقدر نفاذه فى الجهاد، فندبه إلى الجهاد فى بر والديه، وقد روى عن عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان ‏(‏أن من أراد الغزو وأمرته أمه بالجلوس أن يجلس‏)‏ وقال الحسن البصرى‏:‏ إذا أذنت له أمه فى الجهاد وعلم أن هواها أن يجلس، فيجلس‏.‏

ومن رأى ألا يخرج إلى الغزو إلا بإذن والديه‏:‏ مالك والأوزاعى والشافعى والثورى وأحمد وأكثر أهل العلم، هذا كله فى حال الاختيار ما لم تقع ضرورة وقوة للعدو، وإذا كان ذلك تعين الفرض على الجميع وزال الاختيار، ووجب الجهاد على الكل‏.‏

باب‏:‏ مَا قِيلَ فِى الَجرَسِ فِى أَعْنَاقِ الإِبِلِ

فيه‏:‏ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ، أَنَّ أَبَا بَشِيرٍ الأنْصَارِىَّ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِى بَعْضِ أَسْفَارِهِ- قَالَ عَبْدُاللَّهِ‏:‏ حَسِبْتُ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ وَالنَّاسُ فِى مَبِيتِهِمْ- فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَسُولا‏:‏ ‏(‏أَنْ لا يَبْقَيَنَّ فِى رَقَبَةِ بَعِيرٍ قِلادَةٌ مِنْ وَتَرٍ، أَوْ قِلادَةٌ إِلا قُطِعَتْ‏)‏‏.‏

قال مالك فى الموطأ بإثر هذا الحديث-‏:‏ أرى ذلك من العين، ففسر المعنى الذى من أجله أمر الرسول بقطع القلائد؛ وذلك أن الذى قلدها إذا اعتقد أنها ترد العين فقد ظن أنها ترد القدر، ولا يجوز اعتقاد هذا، ولذلك روى أن الرفقة الذى فيها الجرس لا تصحبها الملائكة، ولا بأس بتعليق التمائم والخرز التى فيها الدعاء والرقى بكتاب الله عند جميع العلماء؛ لأن ذلك من التعوذ بأسماء الله، وقد سئل عيسى بن دينار عن قلادة ملونة فيها خرز يعلقها الرجل على فرسه للجمال‏.‏

فقال‏:‏ لا بأس بذلك إذا لم تجعل للعين‏.‏

قال المهلب‏:‏ إنما تجعل القلائد من وتر لقوتها ونقائها فخصها صلى الله عليه وسلم، ثم عم سائر القلائد بقوله‏:‏ ‏(‏ولا قلادة إلا قطعت‏)‏‏.‏

فأطلق النهى على جميع ما تقلد به الدواب‏.‏

وقد سئل مالك عن القلادة فقال‏:‏ ما سمعت بكراهته إلا فى الوتر‏.‏

قال أبو عبيد‏:‏ وإنما نهى عن التقليد بالأوتار؛ لأن الدواب تتأذى بذلك، وربما تعلق ذلك بشجر فتختنق فتموت‏.‏

وقد روى عن الرسول صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏قلدوا الخيل، ولا تقلدوها الأوتار‏)‏ وفسره وكيع فقال‏:‏ معناه‏:‏ لا تركبوها فى العين خشية أن يتعلق على راكبها وتر يطالب به‏.‏

باب مَنِ اكْتُتِبَ فِى جَيْشٍ فَخَرَجَتِ، امْرَأَتُهُ حَاجَّةً أَوْ كَانَ لَهُ عُذْرٌ هَلْ يُؤْذَنُ لَهُ

فيه‏:‏ ابْن عَبَّاس قَالَ رسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ، وَلا تُسَافِرَنَّ امْرَأَةٌ إِلا وَمَعَهَا مَحْرَمٌ‏)‏، فَقَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، اكْتُتِبْتُ فِى غَزْوَةِ كَذَا وَكَذَا، وَخَرَجَتِ امْرَأَتِى حَاجَّةً، قَالَ‏:‏ ‏(‏اذْهَبْ، وَحُجَّ مَعَ امْرَأَتِكَ‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ إذا قام بثغور المسلمين من فيه الكفاية لدفع العدو فلا بأس أن يأذن الإمام لمن له عذر فى الرجوع؛ ولهذا المعنى أذن النبى للرجل أن يرجع ويحج مع امرأته، فإن كان للعدو ظهور وقوة تعين فرض الجهاد على كل أحد فلا يأذن له الإمام فى الرجوع‏.‏

قال المهلب‏:‏ والجهاد أفضل لمن قد حج عن نفسه من الحج، لكن لما استضاف إلى الحج النافلة ستر عورة وقطع ذريعة كان أوكد وأفضل من الجهاد فى وقت قد استظهر المسلمون فيه على عدوهم‏.‏

قال المؤلف‏:‏ وقوله‏:‏ ‏(‏ارجع فاحجج مع امرأتك‏)‏ محمول عند العلماء على معنى الندب للزوج أن يحج مع امرأته لا أنه يلزمه ذلك فرضًا كما لا يلزمه مئونة حملها فى الحج؛ فلذلك لا يلزمها أن تحمله إليه بنفسه، وقد تقدم فى باب حج النساء فى آخر كتاب الحج اتفاق الفقهاء فى أنه ليس للرجل منع زوجته من حجة الفريضة، كما لا يمنعها من صلاة ولا صيام، فأغنى ذلك عن إعادته‏.‏

باب الْجَاسُوسِ

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 1‏]‏‏.‏

فيه‏:‏ عَلِىّ، بَعَثَنِى الرسول صلى الله عليه وسلم أَنَا وَالزُّبَيْرَ وَالْمِقْدَادَ، قَالَ‏:‏ ‏(‏انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ، فَإِنَّ بِهَا ظَعِينَةً، وَمَعَهَا كِتَابٌ فَخُذُوهُ مِنْهَا‏)‏، فَانْطَلَقْنَا تَعَادَى بِنَا خَيْلُنَا حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى الرَّوْضَةِ، فَإِذَا نَحْنُ بِالظَّعِينَةِ، فَقُلْنَا‏:‏ أَخْرِجِى الْكِتَابَ، فَقَالَتْ‏:‏ مَا مَعِى مِنْ كِتَابٍ، فَقُلْنَا‏:‏ لَتُخْرِجِنَّ الْكِتَابَ أَوْ لَنُلْقِيَنَّ الثِّيَابَ، فَأَخْرَجَتْهُ مِنْ عِقَاصِهَا، فَأَتَيْنَا بِها الرسول صلى الله عليه وسلم فَإِذَا فِيهِ مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِى بَلْتَعَةَ إِلَى نَاسٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، يُخْبِرُهُمْ بِبَعْضِ أَمْرِ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يَا حَاطِبُ، مَا هَذَا‏)‏‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، لا تَعْجَلْ عَلَىَّ إِنِّى كُنْتُ أمْرًَا مُلْصَقًا فِى قُرَيْشٍ، وَلَمْ أَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهَا، وَكَانَ مَنْ مَعَكَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ لَهُمْ قَرَابَاتٌ بِمَكَّةَ، يَحْمُونَ بِهَا أَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالَهُمْ، فَأَحْبَبْتُ إِنْ فَاتَنِى ذَلِكَ مِنَ النَّسَبِ فِيهِمْ أَنْ أَتَّخِذَ عِنْدَهُمْ يَدًا يَحْمُونَ بِهَا قَرَابَتِى، وَمَا فَعَلْتُ كُفْرًا وَلا ارْتِدَادًا، أوْ لاَ أَرْضَى بِالْكُفْرِ بَعْدَ الإسْلامِ، فَقَالَ النَّبِىّ، صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏قَدْ صَدَقَكُمْ‏)‏، قَالَ عُمَرُ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، دَعْنِى أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ، قَالَ‏:‏ ‏(‏إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَكُونَ قَدِ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ، فَقَالَ‏:‏ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ، فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ‏)‏‏.‏

قال الطبرى‏:‏ فى حديث حاطب بن أبى بلتعة من الفقه أن الإمام إذا ظهر من رجل من أهل الستر على أنه قد كاتب عدوًا من المشركين ينذرهم ببعض ما أسره المسلمون فيهم من عزم، ولم يكن الكاتب معروفًا بالسفه والغش للإسلام وأهله، وكان ذلك من فعله هفوة وزلة من غير أن يكون لها أخوات؛ فجائز العفو عنه كما فعله الرسول بحاطب من عفوه عن جرمه بعدما اطلع عليه من فعله‏.‏

وهذا نظير الخبر الذى روت عمرة عن عائشة أن الرسول قال‏:‏ ‏(‏أقيلوا ذوى الهيئات عثراتهم إلا حدا من حدود الله‏)‏ فإن ظن ظان أن صفحه صلى الله عليه وسلم إنما كان لما أعلمه الله من صدقه، ولا يجوز لمن بعد الرسول أن يعلم ذلك، فقد ظن خطأ؛ لأن أحكام الله فى عباده إنما تجرى على ما ظهر منهم‏.‏

وقد أخبر الله نبيه عن المنافقين الذين كانوا بين ظهرانى أصحابه مقيمين معتقدين الكفر، وعرفه إياهم بأعيانهم، ثم لم يبح له قتلهم وسبيهم؛ إذ كانوا يظهرون الإسلام بألسنتهم، فكذلك الحكم فى كل أحد من خلق الله أن يؤخذ بما ظهر لا بما بطن، وقد روى مثل ذلك عن الأئمة، روى الليث بن سعد، عن يزيد بن أبى منصور قال‏:‏ ‏(‏بلغ عمر بن الخطاب أن عامله على البحرين أتى برجل قامت عليه بينة أنه كاتب عدوًا للمسلمين بعورتهم، وكان اسمه‏:‏ أضرباس، فضرب عنقه وهو يقول‏:‏ يا عمر، يا عمراه، فكتب عمر إلى عامله فقدم عليه فجلس له عمر وبيده حربة، فلما دخل عليه علا لجبينه بالحربة وجعل يقول‏:‏ أضرباس لبيك، أضرباس لبيك‏.‏‏.‏

فقال له عامله‏:‏ يا أمير المؤمنين، إنه كاتبهم بعورة المسلمين وهم أن يلحق بهم‏.‏

فقال له عمر‏:‏ قتلته على هذه، وأينا لم يهم، لولا أن تكون سيئة لقتلتك به‏)‏‏.‏

قال الطبرى‏:‏ وفيه البيان عن بعض أعلام النبوة؛ وذلك إعلام الله نبينا بخبر المرأة الحاملة كتاب حاطب إلى قريش، ومكانها الذى هى به، و حالها الذى تغلب عليها من الستر وكل ذلك لا يعلم إلا بوحى الله تعالى‏.‏

وقال المهلب‏:‏ وفيه هتك ستر المذنب، وكشف المرأة العاصية‏.‏

وفيه‏:‏ أن الجاسوس قد يكون مؤمنًا، وليس تجسسه مما يخرجه من الإيمان‏.‏

وفيه‏:‏ أنه لا يتسور فى قتل أحد دون رأى الإمام‏.‏

وفيه‏:‏ إشارة الوزير بالرأى على السلطان وإن لم يستشره‏.‏

وفيه‏:‏ الاشتداد عند السلطان على أهل المعاصى، والاستئذان فى قتلهم‏.‏

وفيه‏:‏ جواز العفو عن الخائن لله ورسوله تجسس أو غيره‏.‏

وفيه‏:‏ مراعاة فضيلة سلفت، ومشهد شاهده الجاسوس وغيره من المذنبين والتشفع بذلك له‏.‏

وفيه‏:‏ الحجة لترك إنفاذ الوعيد من الله لمن شاء ذلك له بقوله‏:‏ ‏(‏لعل الله اطلع على أهل بدر فقال‏:‏ اعملوا ما شئتم؛ فقد غفرت لكم‏)‏‏.‏

وفيه‏:‏ جواز غفران ما تأخر وقوعه من الذنوب قبل وقوعه، وسيأتى بعض معانى هذا الحديث فى باب ‏(‏المتأولين‏)‏ فى آخر كتاب الديات وفى كتاب الاستئذان فى باب من ‏(‏نظر فى كتاب من يحذر على المسلمين؛ ليستبين أمره‏)‏‏.‏

واختلف الفقهاء فى المسلم يكاتب المشركين بأخبار المسلمين، فقال مالك‏:‏ ما فيه شيء وأرى فيه اجتهاد الإمام‏.‏

وقال أبو حنيفة والأوزاعى‏:‏ يوجع عقوبة، ويطال حبسه‏.‏

وقال الشافعى‏:‏ إن كان ذا هيئة عفا الإمام عنه، واحتج بهذا الحديث أن النبى صلى الله عليه وسلم لم يعاقب حاطبًا، وإن كان غير ذى هيئة عذره الإمام؛ لأنه لا يحل دم أحد إلا بكفر بعد إيمان أو زنا بعد إحصان أو قتل نفس‏.‏

وقال ابن القاسم فى العتبية‏:‏ يضرب عنقه؛ لأنه لا تعرف توبته‏.‏

وهو قول سحنون، وقال ابن وهب‏:‏ يقتل إلا أن يتوب‏.‏

وقال ابن الماجشون‏:‏ إن كان نادرًا من فعله، ولم يكن من أهل الطعن على الإسلام، فلينكل لغيره، وإن كان معتادًا لذلك فليقتل‏.‏

ومن قال بقتل الجاسوس المسلم فقد خالف الحديث وأقوال المتقدمين من العلماء، فلا وجه لقوله‏.‏

واختلفوا فى الحربى المستأمن أو الذمى يتجسس ويدل على عورات المسلمين، فقال الثورى والكوفيون والشافعى‏:‏ لا يكون ذلك نقضًا للعهد فى حربى ولا ذمى، ويوجعه الإمام ضربًا ويطيل حبسه‏.‏

وقال الأوزاعى‏:‏ قد نقض العهد وخرج من الذمة؛ فإن شاء الإمام قتله أو صلبه‏.‏

وهو قول سحنون، وقال مالك فى أهل الذمة‏:‏ إذا تلصصوا أو قطعوا الطريق لم يكن ذلك نقضًا للعهد حتى يمنعوا الجزية ويمتنعوا من أهل الإسلام فهؤلاء فيء إذا كان الإمام عدلا‏.‏

وعند مالك إذا استكره الذمى مسلمة فزنى بها فهو نقض للعهد وإن طاوعته لم يخرج من العهد‏.‏

وعند الشافعى لا ينقض الذمة شيء من فعله إلا الامتناع من أداء الجزية، أو الامتناع من الحكم؛ فإذا فعلوا ذلك نبذ إليهم‏.‏

وقال الطحاوى‏:‏ لم يختلفوا أن المسلم لو فعل ذلك لم يبح دمه؛ فكذلك المستأمن، والذمى قياسًا عليه‏.‏

ولم يراع الطحاوى اختلاف أصحاب مالك ولا غيره من المتقدمين مع خلافهم للحديث‏.‏

والظعينة‏:‏ المرأة فى الهودج، ولا يقال لها‏:‏ ظعينة إلا وهى كذلك قال الخطابى‏:‏ إنما قيل للمرأة‏:‏ ظعينة؛ لأنها تظعن مع زوجها إذا ظعن‏.‏

والعقاص‏:‏ السير الذى تجمع به شعرها على رأسها، والعقص‏:‏ الظفر، هو الفتل‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏إنى كنت ملصقًا فى قريش‏)‏ يعنى‏:‏ كنت مضافًا إليهم ولست منهم، وأصل ذلك من لصاق الشيء بغيره؛ ليبين منه، ولذلك قيل‏:‏ المدعى فى القوم ملصق، عن الطبري‏.‏

باب الْكِسْوَةِ لِلأسَارَى

- فيه‏:‏ جَابِر، لَمَّا كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ أُتِىَ بِأُسَارَى، وَأُتِىَ بِالْعَبَّاسِ، وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ثَوْبٌ، فَنَظَرَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم لَهُ قَمِيصًا، فَوَجَدُوا قَمِيصَ عَبْدِاللَّهِ بْنِ أُبَىٍّ يَقْدُرُه عَلَيْهِ، فَكَسَاهُ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم إِيَّاهُ، فَلِذَلِكَ نَزَعَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم قَمِيصَهُ الَّذِى أَلْبَسَهُ إياه‏.‏

قال ابن عيينة‏:‏ كانت له عند النبى صلى الله عليه وسلم يد أحب أن يكافئه‏.‏

قال المهلب‏:‏ وفيه كسوة الأسارى والإحسان إليهم، ولا يتركوا عراة فتبدوا عوراتهم ولا يجوز النظر إلى عورات المشركين‏.‏

وفيه‏:‏ وجوب المكافأة على اليد تسدى إلى قريب الرجل إذا كان ذلك إكرامًا له فى قريبه ولم يطلبها القريب، إذا كانت بسبب الستر من أهله‏.‏

وفيه‏:‏ أن المكافأة تكون فى الحياة وبعد الممات‏.‏

باب فَضْلِ مَنْ أَسْلَمَ عَلَى يَدَيْهِ رَجُلٌ

فيه‏:‏ سَهْل، قَالَ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ خَيْبَرَ‏:‏ ‏(‏لأعْطِيَنَّ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلا، يُفْتَحُ عَلَى يَدَيْهِ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث إلى قوله‏:‏ ‏(‏فَوَاللَّهِ لأنْ يَهْدِىَ اللَّهُ بِكَ رَجُلا، خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ ومما يشبه معنى هذا الحديث قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من سن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة لا ينقص من أجورهم شيئًا‏)‏ وقد روينا عن الرسول‏:‏ ‏(‏أن العالم إذا لم يعمل بعلمه يأمر الله به إلى النار يوم القيامة، فيقول رجل قد كان علمه ذلك العالم علمًا دخل به الجنة فيقول-‏:‏ يا رب، هذا علمنى ما دخلت به الجنة، فهب لى معلمي‏.‏

فيقول تعالى‏.‏

هبوا له معلمه‏)‏‏.‏

وقال ابن الأنبارى‏:‏ حمر النعم‏:‏ كرامها وأعلاها منزلة‏.‏

وقال أبو عبيد عن الأصمعى‏:‏ بعير أحمر إذا لم يخالط حمرته شيء، فإن خالطت حمرته قنوء فهو كميت‏.‏

باب الأسَارَى فِى السَّلاسِلِ

فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏عَجِبَ اللَّهُ مِنْ قَوْمٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ فِى السَّلاسِلِ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ قوله‏:‏ ‏(‏يدخلون الجنة فى السلاسل‏)‏ يعنى‏:‏ يدخلون الإسلام مكرهين، وسمى الإسلام باسم الجنة؛ لأنه سببها ومن دخله دخل الجنة، وقد جاء هذا المعنى بينًا فى الحديث، ذكره البخارى فى التفسير فى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كنتم خير أمة أخرجت للناس ‏(‏قال‏:‏ ‏(‏خير الناس للناس يأتون بهم فى السلاسل فى أعناقهم حتى يدخلوا فى الإسلام‏)‏‏.‏

وفيه‏:‏ سوق الأسرى فى الحبال والسلاسل والاستيثاق منهم حتى يرى الإمام فيهم رأيه‏.‏

وقال ابن فورك‏:‏ والعجب المضاف إلى الله يرجع إلى معنى الرضا والتعظيم، وأن الله يعظم من أخبر عنه بأنه تعجب منه ويرضى عنه‏.‏

باب فَضْلِ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ

فيه‏:‏ أَبُو موسى قَالَ رسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ثَلاثَةٌ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ‏:‏ الرَّجُلُ تَكُونُ لَهُ الأمَةُ، فَيُعَلِّمُهَا فَيُحْسِنُ تَعْلِيمَهَا، وَيُؤَدِّبُهَا فَيُحْسِنُ أَدَبَهَا، ثُمَّ يُعْتِقُهَا فَيَتَزَوَّجُهَا، وَمُؤْمِنُ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِى كَانَ مُؤْمِنًا، ثُمَّ آمَنَ بِالنَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم وَالْعَبْدُ الَّذِى يُؤَدِّى حَقَّ اللَّهِ، وَيَنْصَحُ لِسَيِّدِهِ‏)‏‏.‏

ثُمَّ قَالَ الشَّعْبِىُّ‏:‏ وَأَعْطَيْتُكَهَا بِغَيْرِ ثَمَنٍ، وَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يَرْحَلُ فِى أَهْوَنَ مِنْهَا إِلَى الْمَدِينَةِ‏.‏

قال المهلب‏:‏ فيه أن من أحسن فى معنيين من أى فعل كان من أفعال البر؛ فله أجره مرتين، والله يضاعف لمن يشاء، وإنما جاء النص فى هؤلاء الثلاثة؛ ليستدل بذلك فى سائر الناس وسائر الأعمال‏.‏

وفى قول الشعبى جواز الامتنان بالعلم والتعنيف لخطره لينبه على ذلك من يجهل مقداره‏.‏

باب أَهْلِ الدَّارِ يُبَيَّتُونَ فَيُصَابُ الْوِلْدَانُ وَالذَّرَارِىُّ

‏{‏بَيَاتًا‏}‏‏:‏ لَيْلا فيه‏:‏ الصَّعْبِ، مَرَّ بِىَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم بِالأبْوَاءِ- أَوْ بِوَدَّانَ- فَسُئِلَ عَنْ أَهْلِ الدَّارِ يُبَيَّتُونَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَيُصَابُ مِنْ نِسَائِهِمْ وَذَرَارِيِّهِمْ، قَالَ‏:‏ ‏(‏هُمْ مِنْهُمْ‏)‏، وَسَمِعْتُهُ، يَقُولُ‏:‏ ‏(‏لا حِمَى إِلا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ‏)‏‏.‏

اختلف الفقهاء فى العمل بهذا الحديث، فتركه قوم وذهبوا إلى أنه لا يجوز قتل النساء والولدان فى الحرب على كل حال، وأنه لا يحل أن يقصد إلى قتل غيرهم إذا كان لا يؤمن فى ذلك تلفهم مثل أن يتترس أهل الحرب بصبيانهم ولا يستطيع المسلمون رميهم، إلا بإصابة صبيانهم فحرام عليهم رميهم، وكذلك إن تحصنوا بحصن أو سفينة وجعلوا فيها نساء وصبيانًا وأسارى مسلمين فحرام رمى ذلك الحصن وحرق تلك السفينة؛ إذا كان يخاف تلف النساء والصبيان والأسارى‏.‏

واحتجوا بعموم نهيه صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان، وبعموم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابًا أليمًا ‏(‏هذا قول مالك والأوزاعي‏.‏

وقال الكوفيون والشافعى‏:‏ إنما وقع النهى عن قتل النساء والصبيان إذا قصد إلى قتلهم، فأما إذا قصد إلى قتل غيرهم ممن لا يوصل إلى ذلك منهم إلا بتلف نسائهم وصبيانهم فلا بأس بذلك، واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏هم منهم‏)‏‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ فلما لم ينههم النبى عن الغارة، وقد كان يعلم أنهم يصيبون فيهم الولدان والنساء الذى يحرم القصد إلى قتلهم دل ذلك أن ما أباح فى حديث الصعب معنى غير المعنى الذى من أجله منع قتلهم فى حديث ابن عمر، وأن الذى أباح هو القصد إلى قتل المشركين وإن كان فى ذلك تلف غيرهم ممن لا يحل القصد إلى قتله؛ حتى لا تتضاد الآثار‏.‏

وقد أمر صلى الله عليه وسلم بالغارة على العدو فى آثار متواترة، ولم يمنعه من ذلك ما يحيط به علمًا أنه لا يؤمن من تلف النساء والولدان فى ذلك، والنظر يدل على ذلك أيضًا، وقد روى عن رسول الله فى الذى عض يد رجل فانتزع يده فسقطت ثنايا العاض؛ فأبطل ذلك صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ فلما كان المعضوض نزع يده وإن كان فى ذلك تلف ثنايا غيره وكان حرامًا عليه القصد إلى نزع ثنايا غيره بغير إخراج يده من فيه ولم يكن القصد فى ذلك إلى غير التلف كالقصد إلى التلف فى الإثم ولا فى وجوب العقل، كان كذلك من له أخذ شيء وفى أخذه إياه تلف غيره مما يحرم عليه القصد إلى تلفه، فكذلك العدو قد جعل لنا قتالهم، وحرم علينا قتل نسائهم وذراريهم فحرام علينا القصد إلى ما نهينا عنه من ذلك، وحلال لنا القصد إلى ما أبيح لنا، وإن كان فيه تلف غيره مما حرم علينا‏.‏

وقوله فى حديث الصعب‏:‏ ‏(‏لا حمى إلا لله ولرسوله‏)‏‏.‏

فلا شيء فيه من معنى ما تقدم من التبييت، هو سببه بما روى عن أبى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم ‏(‏نحن الآخرون السابقون يوم القيامة‏)‏ ثم وصل ذلك المحدث بكلام آخر ليس فيه شيء من معنى ما قبله، و إنما كانوا يحدثون بالأحاديث على نحو ما كانوا يسمعونها، وقد تقدم بيان هذا فى ‏(‏كتاب الطهارة‏)‏ فى باب ‏(‏لا يبول فى الماء الدائم‏)‏‏.‏

باب قَتْلِ الصِّبْيَانِ فِى الْحَرْبِ

فيه‏:‏ ابْن عُمَر، أَنَّ امْرَأَةً وُجِدَتْ فِى بَعْضِ مَغَازِى النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم مَقْتُولَةً، فَأَنْكَرَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم قَتْلَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ‏.‏

وترجم له باب ‏(‏قتل النساء فى الحرب‏)‏ وقال مكان ‏(‏فأنكر‏)‏ ‏(‏فنهى‏)‏‏.‏

ولا يجوز عند جميع العلماء قصد قتل نساء الحربيين ولا أطفالهم؛ لأنهم ليسوا ممن قاتل فى الغالب‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وقاتلوا فى سبيل الله الذين يقاتلونكم ‏(‏وبذلك حكم رسول الله فى مغازيه أن تقتل المقاتلة وتسبى الذرية؛ لأنهم مال للمسلمين إذا سبوا‏.‏

واتفق الجمهور على أن النساء والصبيان إذا قاتلوا قتلوا وهو قول مالك والليث وأبى حنيفة والثورى والأوزاعى والشافعى وأحمد وإسحاق وأبى ثور، وقال الحسن البصرى‏:‏ إن قاتلت المرأة وخرجت معهم إلى ديار المسلمين فلتقتل، وقد قتل رسول الله يوم قريظة والخندق ‏[‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏]‏ وقتل يوم الفتح قينتين كانتا تغيان بهجاء رسول الله‏.‏

واتفق مالك والكوفيون والأوزاعى والليث أنه لا يقتل الشيوخ ولا الرهبان، وأجاز قتلهم الشافعى فى أحد قوليه، واحتج بأن رسول الله أمر بقتل دريد بن الصمة يوم حنين، وكذلك أجمعوا أن من قاتل من الشيوخ أنه يقتل، واحتج الطحاوى فقال‏:‏ قد روى علقمة ابن مرثد، عن بريدة، عن أبيه أن الرسول كان إذا بعث سرية قال‏:‏ ‏(‏لا تقتلوا شيخًا كبيرًا‏)‏‏.‏

وهذا خلاف حديث دريد، وقد قال رسول الله فى حديث المرقع ابن صيفى فى المرأة المقتولة‏:‏ ‏(‏ما كانت هذه تقاتل‏)‏‏.‏

فدل ذلك أن من أبيح قتله هو الذى يقاتل، والذى يجمع بين الأحاديث أن النهى من الرسول فى قتل الشيوخ هم الذين لا معونة لهم على شيء من أمر الحرب فى قتل ولا رأي‏.‏

وحديث دريد فى الشيوخ الذين لهم معونة فى الحرب كما كان لدريد، فلا بأس بقتلهم، وإن لم يكونوا يقاتلون؛ لأن تلك المعونة أشد من كثير من القتال، وهذا قول محمد ابن الحسن، وهو قياس قول أبى حنيفة أبى يوسف‏.‏

باب‏:‏ لاَ يُعَذَّبُ بِعَذَابِ اللَّهِ

فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، بَعَثَنَا الرسول صلى الله عليه وسلم فِى بَعْثٍ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏إِنْ وَجَدْتُمْ فُلانًا وَفُلانًا فَأَحْرِقُوهُمَا بِالنَّارِ‏)‏، ثُمَّ قَالَ حِينَ أَرَدْنَا الْخُرُوجَ‏:‏ ‏(‏إِنِّى أَمَرْتُكُمْ أَنْ تُحْرِقُوهما، وَإِنَّ النَّارَ لا يُعَذِّبُ بِهَا إِلا اللَّهُ، فَإِنْ وَجَدْتُمُوهُمَا فَاقْتُلُوهُمَا‏)‏‏.‏

وفيه‏:‏ عِكْرِمَةَ، أَنَّ عَلِيًّا حَرَّقَ قَوْمًا، فَبَلَغَ ابْنَ عَبَّاسٍ، فَقَالَ‏:‏ لَوْ كُنْتُ أَنَا لَمْ أُحَرِّقْهُمْ، لأنَّ النَّبِىَّ؛ صلى الله عليه وسلم، قَالَ‏:‏ ‏(‏لا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ‏)‏، وَلَقَتَلْتُهُمْ كَمَا قَالَ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ ليس نهيه صلى الله عليه وسلم عن التحريق بالنار على معنى التحريم، وإنما هو على سبيل التواضع لله، وأن لا يتشبه بغضبه فى تعذيب الخلق؛ إذ القتل يأتى على ما يأتى عليه الإحراق‏.‏

والدليل على أنه ليس بحرام سمل الرسول عين العرنيين بالنار فى مصلى المدينة بحضرة الصحابة‏.‏

وتحريق على بن أبى طالب الخوارج بالنار، وأكثر علماء المدينة يجيزون تحريق الحصون على أهلها بالنار، وقول أكثرهم بتحريق المراكب، وهذا كله يدل أن معنى الحديث على الحض والندب لا على الإيجاب والفرض والله أعلم‏.‏

وممن كره رمى أهل الشرك بالنار‏:‏ عمر بن الخطاب وابن عباس وعمر بن عبد العزيز، وهو قول مالك بن أنس، وأجازه على بن أبى طالب، وحرق خالد بن الوليد ناسًا من أهل الردة، فقال عمر لأبى بكر الصديق‏:‏ انزع هذا الذى يعذب بعذاب الله‏.‏

فقال أبو بكر‏:‏ لا أشيم سيفًا سله الله على المشركين‏.‏

وأجاز الثورى رمى الحصون بالنار‏.‏

وقال الأوزاعى‏:‏ لا بأس أن يدخن عليهم فى المطمورة إذا لم يكن فيها إلا المقاتلة، ويحرقوا ويقتلوا بكل قتلة، ولو لقيناهم فى البحر رميناهم بالنفط والقطران‏.‏

وأجاز ابن القاسم حرق الحصن والمراكب إذا لم يكن فيها إلا المقاتلة فقط‏.‏

باب ‏{‏فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 4‏]‏

- فِيهِ‏:‏ حَدِيثُ ثُمَامَةَ، وَقَوْلُهُ عز وجل‏:‏ ‏{‏مَا كَانَ لِنَبِىٍّ أَنْ تَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِى الأرْضِ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 67‏]‏ يَعْنِى يَغْلِبَ فِى الأرْضِ‏.‏

اختلف العلماء فى حكم الأسرى من أجل اختلافهم فى تأويل قوله‏:‏ ‏(‏فإما منًّا بعد وإما فداء ‏(‏فقال السدى وابن جريج‏:‏ نسخها قوله‏:‏ ‏(‏فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ‏(‏وقال قتادة‏:‏ نسخها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإما تثقفنهم فى الحرب فشرد بهم من خلفهم ‏(‏وقال الطبرى‏:‏ روى عن أبى بكر الصديق أنه قال‏:‏ لا يفادى بأسير المشركين وإن أعطى فيه كذا وكذا مديًا من المال‏.‏

قال الزهرى‏:‏ كتب عمر بن الخطاب‏:‏ اقتلوا كل من جرت عليه المواسي‏.‏

وهو قول الزهرى ومجاهد، واعتلوا لإنكارهم إطلاق الأسرى بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما كان لنبى أن يكون له أسرى حتى يثخن فى الأرض تريدون عرض الدنيا‏}‏ الآيات‏.‏

قالوا‏:‏ فأنكر الله إطلاق أسارى بدر على نبيه على الفداء، فغير جائز لأحد أن يتقدم على فعله، وسنة الله تعالى فى أهل الكفر به إن كانوا من أهل الأوثان، فقتلهم على كل حال؛ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم‏}‏ الآية‏.‏

وإن كانوا من أهل الكتاب، حتى يسلموا أو يعطوا الجزية، فأما إطلاقهم على فداء يؤخذ منهم فتقوية لهم‏.‏

وقال الضحاك‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإما منا بعد وإما فداء‏}‏ هى ناسخة لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاقتلوا المشرككين حيث وجدتموهم ‏(‏ومثل هذا عن ابن عمر قال‏:‏ أليس بهذا أمرنا الله‏؟‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء ‏(‏وهو قول عطاء والشعبى والحسن البصرى، كرهوا قتل الأسير، وقالوا‏:‏ مُنَّ عليه أو فاده‏.‏

وبمثل هذا استدل الطحاوى فقال‏:‏ ظاهر قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإما منا بعد وإما فداء ‏(‏يقتضى المن أو الفداء ويمنع القتل‏.‏

قالوا‏:‏ ولو كان لنا من قتلهم بعد الإيثاق ما لنا قبله لم يفهم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حتى إذا أُثخنتموهم فشدوا الوثاق ‏(‏فدل أن حكم الكافر بعد الاستيثاق والأسر خلاف حكمه قبل ذلك، قال أبو عبيد‏:‏ والقول عندنا فى ذلك أن الآيات جميعًا محكمات لا نسخ فيهن، يبين ذلك ما كان من أحكام رسول الله فيهم وذلك أنه عمل بالآيات كلها، من القتل والمن والفداء، حتى توفاه الله على ذلك، فكان أول أحكامه فيهم يوم بدر، فعمل بها كلها يومئذ، بدأ بالقتل فقتل عقبة ابن أبى معيط والنضر بن الحارث فى قفوله، ثم قدم المدينة فحكم فى سائرهم بالفداء، ثم حكم يوم الخندق سعد بن معاذ بقتل المقاتلة، وسبى الذرية، فصوب ذلك النبى صلى الله عليه وسلم وأمضاه‏.‏

ثم كانت غزاة بنى المصطلق رهط جويرية بنت الحارث، فاستحياهم جميعًا وأعتقهم‏.‏

ثم كان فتح مكة، فأمر بقتل ابن خطل ومقيس والقينتين، وأطلق الباقين، ثم كانت حنين فسبى هوازن، ومَنَّ عليهم، وقتل أبا غرة الجمحى يوم أُحد وقد كان مَنَّ عليه يوم بدر وأطلق ثمامة بن أثال‏.‏

وكانت هذه أحكامه صلى الله عليه وسلم بالمن والفداء والقتل، فليس شيئًا منها منسوخًا، والأمر فيهم أن الإمام وهو مخير بين القتل والمن والفداء، يفعل الأفضل فى ذلك للإسلام وأهله، وهو قول مالك والشافعى وأحمد وأبى ثور‏.‏

قال المهلب‏:‏ وأما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما كان لنبى أن يكون له أسرى حتى يثخن فى الأرض ‏(‏فإن هذه الآية نزلت فى أسرى بدر، أخذ فيهم صلى الله عليه وسلم رأى أبى بكر الصديق فى استحيائهم وقبول الفداء منهم، وكان عمر أشار عليه بقتلهم، وأشار عليه غيره بحرقهم استبلاغًا فيهم، فبات النبى يرى رأيه فى ذلك، وكانت أول وقعة أوقعها الله تعالى بالكفار، فأراد الله أن يكسر كيدهم بقتلهم، فعاتب النى صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه‏:‏ ‏(‏ما كان لنبى أن يكون له أسرى حتى يثخن فى الأرض تريدون عرض الدنيا ‏(‏يعنى‏:‏ الفدية،‏)‏ والله يريد الآخرة ‏(‏أى‏:‏ إعلاء كلمته، وإظهار دينه بقتلهم‏.‏

وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لو نزلت آية عذاب ما نجا منها إلا عمر‏)‏ لأنهم طلبوا الفداء، وكانت الغنائم محرمة عليهم‏.‏

وقال الطبرى‏:‏ فى قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لو نزلت آية عذاب ما نجا منها غير عمر‏)‏ وفى قوله‏:‏ ‏(‏لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم ‏(‏إن قيل‏:‏ كيف استحقوا هذه اللائمة العظيمة‏؟‏ قال الطبرى‏:‏ إن النبى صلى الله عليه وسلم ومن شهد معه بدرًا لم يخالفوا أمر ربهم؛ فيستوجبوا اللائمة، وإن الذين اختاروا فداء الأسرى على قتلهم اختاروا أوهن الرأيين فى التدبير على أحزمهما وأقلهما نكاية فى العدو، فعاتبهم الله على ذلك، وأخبرهم أن الأنبياء قبل محمد لم تكن الغنائم لهم حلالا، فكانوا يقتلون من حاربوا ولا يأسرونه على طلب الفداء‏)‏ لولا كتاب من الله سبق ‏(‏لولا قضاؤه أنه يحل لكم الغنيمة ولا يعذب من شهد بدرًا‏)‏ لمسكم فيما أخذتم ‏(‏من الفداء‏)‏ عذاب عظيم‏}‏‏.‏

وفى حديث ثمامة من الفقه جواز المن على الأسير بغير مال، وهو قول مالك والشافعى وأحمد وأبى ثور وقالوا‏:‏ لا بأس أن يفادى بأسرى المسلمين وبالمال أيضًا‏.‏

وقال الطحاوى‏:‏ اختلف قول أبى حنيفة فى هذه المسألة، فروى عنه أن الأسرى لا يفادون ولا يردون حربًا؛ لأن فى ذلك قوة لأهل الحرب، وإنما يفادون بالمال وبما سواه مما لا قوة لهم فيه، وروى عنه أنه لا بأس أن يفادى بالمشركين أسارى المسلمين، وهو قول أبى يوسف، ومحمد، قال ابن القصار‏:‏ ومما يرد به على أبى حنيفة أنا اتفقنا معه أن مكة فتحت عنوة‏.‏

وأن نبى الله من عليهم بغير شيء كما فعل بثمامة‏.‏

باب هَلْ لِلأسِيرِ أَنْ يَقْتُلَ أوَ يَخْدَعَ الَّذِينَ أَسَرُوهُ حَتَّى يَنْجُوَ مِنَ الْكَفَرَةِ

فيه‏:‏ الْمِسْوَرُ عَنِ النَّبِىِّ، صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال المؤلف‏:‏ يريد حديث‏:‏ ‏(‏صالح النبى صلى الله عليه وسلم المشركين بالحديبية، على أن يردوا من هرب إليهم مسلمًا، فهرب أبو بصير إلى النبى، فأرسلوا فى طلبه رجلين إلى النبى؛ وقالوا‏:‏ العهد الذى جعلت لنا، فدفعه إلى الرجلين، فخرجا به حتى بلغا ذا الحليفة، فنزلوا يأكلون من تمر لهم، فقال أبو بصير لأحد الرجلين‏:‏ والله إنى لأرى سيفك يا فلان جيدًا فاستله الآخر، وقال‏:‏ أجل، والله إنه لجيد، لقد جربت به، ثم جربت‏.‏

فقال له أبو بصير‏:‏ أرانى أنظر إليه، فأمكنه منه فضربه به حتى برد، وفر الآخر حتى أتى المدينة، فدخل المسجد يعدو، فقال الرسول حين رآه‏:‏ لقد رأى هذا ذعرًا فجاء أبو بصير، فقال‏:‏ يا نبى الله، قد أوفى الله بذمتك ورددتنى إليهم، ثم أنجانى الله منهم‏.‏

فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ويل أمه مسعر حرب، لو كان له أحد‏.‏

فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده، فخرج حتى أتى سيف البحر، ولحق به أبو جندل، وكل من أسلم من قريش، حتى اجتمعت منهم عصابة، وكانوا لا يسمعون بعير خرجت لقريش إلا قتلوهم، وأخذوا أموالهم، فأرسلت قريش إلى النبى صلى الله عليه وسلم تناشده الله والرحم، فمن أتاه منهم فهو آمن، فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏وهو الذى كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة ‏(‏وذكر الحديث‏.‏

اختلف العلماء فى الأسير، هل له أن يقتل المشركين أو يخدعهم حتى ينجو منهم، فقالت طائفة من العلماء‏:‏ لا ينبغى للأسير المقام بدار الحرب إذا أمكنه الخروج، وإن لم يتخلص منهم إلا بقتلهم، وأخذ أموالهم، وإحراق دورهم؛ فعل ما شاء من ذلك، وهو قول أبى حنيفة والطبرى، وقال أشهب‏:‏ إن خرج به العلج فى الحديد ليفادى به، فله أن يقتله إن أمكنه ذلك وينجو‏.‏

واختلفوا إذا أمنوه، وعاهدهم ألا يهرب، فقال الكوفيون‏:‏ إعطاؤه العهد على ذلك باطل‏.‏

وقال الشافعى‏:‏ له أن يخرج ولا يأخذ شيئًا من أمولهم؛ لأنه قد أمنهم بذلك كما أمنوه‏.‏

وقال مالك‏:‏ إن عاهدهم على ذلك فلا يجوز أن يهرب إلا بإذنهم‏.‏

وهو قول سحنون وابن المواز، قال ابن المواز‏:‏ وهذا بخلاف إذا أجبروه ألا يهرب بطلاق أو عتاق، أنه لا يلزمه، وذلك لأنه مكره‏.‏

ورواه أبو زيد عن ابن القاسم‏.‏

وقال غيره‏:‏ لا معنى لقول من فرق بين يمينه وعهده ألا يهرب؛ لأن حالته حال المكره حلف لهم أو وعدهم أو عاهدهم، سواء أمنوه أو أخافوه؛ لأن الله فرض على المؤمن ألا يبقى تحت أحكام الكفار، وأوجب عليه الهجرة من دارهم، فخروجه على كل وجه جائز، والحجة فى ذلك ‏(‏خروج أبى بصير، الرسول فعله ورضاه‏)‏‏.‏

باب إِذَا حَرَّقَ الْمُشْرِكُ الْمُسْلِمَ هَلْ يُحَرَّقُ

فيه‏:‏ أَنَس، أَنَّ رَهْطًا مِنْ عُكْلٍ ثَمَانِيَةً، قَدِمُوا عَلَى النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم فَاجْتَوَوُا الْمَدِينَةَ، فَقَالُوا‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، ابْغِنَا رِسْلا، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏مَا أَجِدُ لَكُمْ إِلا أَنْ تَلْحَقُوا بِالذَّوْدِ، فَانْطَلَقُوا، فَشَرِبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا‏)‏، حَتَّى صَحُّوا وَسَمِنُوا، وَقَتَلُوا الرَّاعِىَ، وَاسْتَاقُوا الذَّوْدَ- إلى قوله-‏:‏ فَقَطَّعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ، ثُمَّ أَمَرَ بِمَسَامِيرَ، فَأُحْمِيَتْ فَكَحَلَهُمْ بِهَا‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث‏.‏

وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ الرسول صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏قَرَصَتْ نَمْلَةٌ نَبِيًّا مِنَ الأنْبِيَاءِ، فَأَمَرَ بِقَرْيَةِ النَّمْلِ، فَأُحْرِقَتْ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ‏:‏ أَنْ قَرَصَتْكَ نَمْلَةٌ أَحْرَقْتَ أُمَّةً مِنَ الأمَمِ تُسَبِّحُ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ قوله‏:‏ باب إذا أحرق المشرك المسلم هل يحرق، ولم يذكر سمل العرنيين أعين الرعاة، يدل أن ذلك من فعلهم مروى، إلا أن طرق ذلك ليست من شرط كتابه‏.‏

قال المؤلف‏:‏ وسأذكر الروايات بذلك فى كتاب المحاربين إن شاء الله وقد يخرج معنى الترجمة من هذا الحديث بالدليل لو لم يصح سمل العرنيين والسمل العرنيين للرعاة، وذلك أن النبى- صلى الله عليه وسلم- تحريق بالنار، استدل منه البخارى أنه لما جاز تحريق أعينهم بالنار ولو كانوا لم يحرقوا أعين الرعاء، أنه أولى بالجواز تحريق المشرك إذا أحرق المسلم‏.‏

وروى سحنون عن ابن القاسم أنه لا بأس برمى المركب من مراكب العدو بالنار إذا بدءونا بالرمى، وإن كان فيهم أسرى مسلمين ونساء وصبيان لهم‏.‏

وكذلك حديث النبى صلى الله عليه وسلم الذى أحرق فيه النمل، فيه دليل على جواز التحريق؛ لأن الله إنما عاتبه فى تحريق جماعة النمل التى لم تقرصه، ولم يعلمه أن ذلك من فعله حرام، ولا أنه أتى كبيرة، فتلزمه التوبة منها؛ لأن الأنبياء معصومون من الكبائر، وقد تقدم ذكر من أجاز التحريق بالنار، ومن كرهه من السلف فى باب‏:‏ ‏(‏لا يعذب بعذاب الله‏)‏ قبل هذا‏.‏

وسيأتى شيء منه فى كتاب المحاربين‏.‏

والرسل‏:‏ اللبن‏.‏

وترجل النهار‏:‏ ارتفع‏.‏

فى كتاب العين‏.‏

باب‏:‏ حرق الدور والنخيل

فيه‏:‏ جَرِيرٌ، قَالَ الرسول صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أَلا تُرِيحُنِى مِنْ ذِى الْخَلَصَةِ‏؟‏- وَكَانَ بَيْتًا فِى خَثْعَمَ يُسَمَّى كَعْبَةَ الْيَمَانِيَةِ- قَالَ‏:‏ فَانْطَلَقْتُ فِى خَمْسِينَ وَمِائَةِ فَارِسٍ مِنْ أَحْمَسَ، وَكَانُوا أَصْحَابَ خَيْلٍ، قَالَ‏:‏ وَكُنْتُ لا أَثْبُتُ عَلَى الْخَيْلِ، فَضَرَبَ فِى صَدْرِى، حَتَّى رَأَيْتُ أَثَرَ أَصَابِعِهِ فِى صَدْرِى، وَقَالَ‏:‏ ‏(‏اللَّهُمَّ ثَبِّتْهُ، وَاجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا‏)‏، فَانْطَلَقَ إِلَيْهَا فَحَرَّقَهَا وَكَسَرَهَا، ثُمَّ بَعَثَ إِلَى النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم يُخْبِرُهُ، فَقَالَ رَسُولُ جَرِيرٍ‏:‏ وَالَّذِى بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا جِئْتُكَ حَتَّى تَرَكْتُهَا، كَأَنَّهَا جَمَلٌ أَجْوَفُ- أَوْ أَجْرَبُ- قَالَ‏:‏ ‏(‏فَبَارَكَ فِى خَيْلِ أَحْمَسَ، وَرِجَالِهَا، خَمْسَ مَرَّاتٍ‏)‏‏.‏

وفيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، أن النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم حَرَّقَ نَخْلَ بَنِى النَّضِيرِ‏.‏

قال المهلب‏:‏ فى حديث جرير من الفقه جواز هتك كل ما افتتن الناس به من بناء أو إنسان أو حيوان أو غيره‏.‏

وفى حديث ابن عمر بيان أن للمسلمين أن يكيدوا عدوهم من المشركين بكل ما فيه تضعيف شوكتهم، وتوهين كيدهم وتسهيل الوصول إلى الظفر بهم من قطع ثمارهم، وتغوير مياههم والحول بينهم وبين ما يتغذون به من الأطعمة والأشربة، والتضييق عليهم بالحصار، وذلك أن رسول الله لما أمر بتحريق نخل بنى النضير كان معلومًا أن ما كان من نظير ذلك من قطع أسباب معاشهم وتغوير مياههم فجائز فعله بهم‏.‏

وقد روى عن على بن أبى طالب قال‏:‏ ‏(‏أمرنى رسول الله أن أغور مياه بدر‏)‏ قاله الطبرى‏.‏

وفيه الدعاء للجيوش إذا بعثت، وفيه بركة دعوة النبى، وفيه البشارة فى الفتوح، وفيه الدليل على صحة قول من أباح إضرام النيران فى حصون العدو، ونصب المجانيق عليهم، ورميهم بالحجارة، وكل ذلك يعمل فى الضر مثل عمل النار أو نحوه‏.‏

واختلف العلماء فى قطع شجر المشركين، وتخريب بلادهم، فرخصت فى ذلك طائفة وكرهته طائفة، فممن أجاز ذلك مالك، والكوفيون، والشافعي‏.‏

قال الكوفيون‏:‏ تحرق شجرهم، وتخرب بلادهم، وتذبح الأنعام، وتحرق إذا لم يمكن إخراجها‏.‏

وقال مالك‏:‏ يحرق النخل ولا تعرقب المواشي‏.‏

وقال الشافعى‏:‏ تحرق الأشجار المثمرة والبيوت، وأكره تحريق الزرع والكلأ‏.‏

وأما من كره ذلك‏:‏ فروى الزهرى عن سعيد بن المسيب أن أبا بكر الصديق قال فى وصية الجيش الذى وجه إلى الشام‏:‏ ‏(‏لا تغرقن نخلا ولا تحرقنها، ولا تعقروا بهيمة، ولا شجرة مثمرة ولا تهدموا بيعة‏)‏ وقال الليث‏:‏ أكره حرق النخل والشجر المثمر، ولا تعرقب بهيمة، وهو قول الأوزاعى فى رواية، وبه قال أبو ثور، والحجة فى قول من أجاز تحريقها؛ لشهادة الكتاب والسنة له، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ما قطعتم من لينة‏}‏ الآية‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ اللينة‏:‏ النخلة والشجرة‏.‏

وقال ابن إسحاق‏:‏ التحريق سنة إذا كان أنكى للعدو‏.‏

وحديث جرير وابن عمر يشهد لصحة هذا القول‏.‏

وقد تأول بعض الفقهاء أن أمر أبى بكر الصديق‏:‏ ‏(‏ألا تحرقن شجرة‏)‏ إنما كان من أجل أن النبى صلى الله عليه وسلم أخبرهم أنهم يفتتحونها‏.‏

وقال الطحاوى‏:‏ خبر أبى بكر مرسل؛ لأن سعيد بن المسيب لم يولد فى أيام أبى بكر الصديق، وقال الطبرى‏:‏ نهى أبى بكر عن تحريق النخل وتغريقه إنما هو نهى أن يقصد بذلك ويتعمد، فأما إذا أصابه التحريق والغرق فى خلال الغارة فغير متبوع به فى الدنيا والآخرة من فعله، كما النهى عن قتل النساء والصبيان، إنما هو نهى عن قصدهم بالقتل وتعمدهم بأعيانهم، فأما من أصابته الخيل فى البيات، أو هلك عند سقوط حصن المدينة عليهم عند هدم المسلمين إياه إرادة وصولهم إلى المقاتلة، أو من أحرقته النار، أو غرقه الماء على هذا الوجه؛ فغير داخل فى الذين نهى الرسول عن قتلهم؛ لأن النبى صلى الله عليه وسلم قد نصب المنجنيق على الطائف، ولا شك أن حجارته إذا وقعت فى الحصن ربما أصابت المرأة والطفل، فلو كان سبيل ما أصابه ذلك سبيل ما أصاب الرامى بيده متعمدًا كان صلى الله عليه وسلم لا ينصبه خشية أن تصيب حجارته من نهى عن قتله، فلما فعل ذلك وأباحه لأمته كان مخالفًا سبيل القصد والعمد فى ذلك‏.‏

واختلفوا إذا غنم المسلمون مواشى الكفار ودوابهم، وخافوا من كرة عدوهم وأخذها من أيديهم‏.‏

فقال مالك وأبو حنيفة‏:‏ تعرقب وتعقر حتى لا ينتفعوا بها‏.‏

وقال الشافعى‏:‏ لا يحل قتلها، ولا عقرها، ولكن تخلى‏.‏

واحتج ابن القصار فى ذلك فقال‏:‏ لا خلاف بيننا أن المشرك لو كان راكبًا لجاز لنا أن نعرقب ما تحته ونقتله؛ لنتوصل بذلك إلى قتله، فكذلك إذا لم يكن راكبًا، وكذلك فعل ما فيه توهينهم وضعفهم بمنزلة واحدة؛ ألا ترى أن قطع شجرهم وإتلاف زروعهم يجوز؛ لأن فى ذلك ضعفهم وتلفهم وكذلك خيلهم ومواشيهم وقد مدح الله تعالى من فعل ذلك فقال‏:‏ ‏(‏ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح ‏(‏فهو عام فى جميع ما ينالون ولما كانت نفوسهم وأموالهم سواء فى استحلالنا إياهم ثم جاز قتلهم إذا لم يتمكن من أسرهم كذلك يجوز إتلاف أموالهم التى يتقوون بها‏.‏

باب‏:‏ قتل المشرك النائم

فيه‏:‏ الْبَرَاءِ بَعَثَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم رَهْطًا مِنَ الأنْصَارِ إِلَى أَبِى رَافِعٍ‏:‏ لِيَقْتُلُوهُ، فَانْطَلَقَ رَجُلٌ مِنْهُمْ، فَدَخَلَ حِصْنَهُمْ، قَالَ‏:‏ فَدَخَلْتُ فِى مَرْبِطِ دَوَابَّ لَهُمْ، قَالَ‏:‏ وَأَغْلَقُوا بَابَ الْحِصْنِ، ثُمَّ إِنَّهُمْ، فَقَدُوا حِمَارًا لَهُمْ فَخَرَجُوا يَطْلُبُونَهُ، فَخَرَجْتُ فِيمَنْ خَرَجَ، أُرِيهِمْ أَنَّنِى أَطْلُبُهُ مَعَهُمْ، فَوَجَدُوا الْحِمَارَ، فَدَخَلُوا، وَدَخَلْتُ، وَأَغْلَقُوا بَابَ الْحِصْنِ لَيْلا، وَوَضَعُوا الْمَفَاتِيحَ فِى كَوَّةٍ حَيْثُ أَرَاهَا، فَلَمَّا نَامُوا أَخَذْتُ الْمَفَاتِيحَ، فَفَتَحْتُ بَابَ الْحِصْنِ، ثُمَّ دَخَلْتُ عَلَيْهِ، فَقُلْتُ‏:‏ يَا أَبَا رَافِعٍ، فَأَجَابَنِى، فَتَعَمَّدْتُ الصَّوْتَ فَضَرَبْتُهُ، فَصَاحَ، فَخَرَجْتُ ‏[‏ثُمَّ‏]‏ جِئْتُ، ثُمَّ رَجَعْتُ كَأَنِّى مُغِيثٌ، فَقُلْتُ‏:‏ يَا أَبَا رَافِعٍ، وَغَيَّرْتُ صَوْتِى، فَقَالَ‏:‏ مَا لَكَ‏؟‏ لأمِّكَ الْوَيْلُ، قُلْتُ‏:‏ مَا شَأْنُكَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ لا أَدْرِى، مَنْ دَخَلَ عَلَىَّ فَضَرَبَنِى، قَالَ‏:‏ فَوَضَعْتُ سَيْفِى فِى بَطْنِهِ، فَتَحَامَلْتُ عَلَيْهِ حَتَّى قَرَعَ الْعَظْمَ، ثُمَّ خَرَجْتُ، وَأَنَا دَهِشٌ، فَأَتَيْتُ سُلَّمًا لَهُمْ؛ لأنْزِلَ مِنْهُ فَوَقَعْتُ، فَوُثِئَتْ رِجْلِى، فَخَرَجْتُ إِلَى أَصْحَابِى، فَقُلْتُ‏:‏ مَا أَنَا بِبَارِحٍ حَتَّى أَسْمَعَ النَّاعِيَةَ، فَمَا بَرِحْتُ حَتَّى سَمِعْتُ نَعَايَا أَبِى رَافِعٍ تَاجِرِ أَهْلِ الْحِجَازِ، فَقُمْتُ، وَمَا بِى قَلَبَةٌ حَتَّى أَتَيْنَا الرسول صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرْنَاهُ‏.‏

وقال البراء‏:‏ ‏(‏إن عبد الله بن عتيك دخل عليه بيته فقتله وهو نائم‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ فيه جواز الاغتيال لمن أغار على رسول الله بيد أو مال، أو ‏(‏راعب‏)‏، وكان أبو رافع يعادى رسول الله ويؤلب الناس عليه، وهذا من باب قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الحرب خدعة‏)‏‏.‏

فيه‏:‏ جواز التجسس على المشركين، وطلب غرتهم، وفيه الاغتيال فى الحرب، والإيهام بالقول، وفيه الأخذ بالشدة فى الحرب، والتعرض لعدد كثير من المشركين، والإلقاء إلى التهلكة فى سبيل الله، وأما الذى نهى عنه من ذلك فهو فى الإنفاق فى سبيل الله، وألا يخل يده من المال فيه رجوعًا وضياعًا، وهى رحمة من الله ورخصة، ومن أخذ بالشدة فمباح له ذلك وأحب إلينا ألا يأخذ بالشدة فى إخلاء يده من المال؛ لوقوع النهى فيه خاصة، وفيه الحكم بالدليل المعروف والعلامة المعروفة على الشيء؛ لحكم هذا الرجل بالواعية على موت أبى رافع‏.‏

وقال صاحب العين‏:‏ الواعية‏:‏ الصارخة التى تندب القتيل، والواعى‏:‏ الصوت، والوعى‏:‏ جلبة وأصوات الكلاب فى الصيد إذا جدت‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏فما برحت حتى سمعت نعايا أبى رافع‏)‏ المعنى‏:‏ انع أبا رافع، جعل دلالة الأمر فيه، وعلامة الجزم آخره بغير تنوين‏.‏

كما قالت العرب فى نظير ذلك من ‏(‏أدركها‏)‏‏:‏ دراكها، ومن ‏(‏نظمت‏)‏‏:‏ نظام كقول الراجز‏:‏ دراكها من إبل دراكها يعنى‏:‏ أدركها‏.‏

وزعم سيبويه أنه يطرد هذا الباب فى الأفعال الثلاثية كلها، أن يقال فيها‏:‏ فعال بمعنى‏:‏ افعل‏.‏

نحو‏:‏ حذار، ومتاع، وتراك، كما تقول اترك، احذر امتع، وأنشد للكميت‏:‏

نعا جذامًا غير موت ولا قتل ***

أراد‏:‏ انع جذامًا‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏وما بى قلبة‏)‏ قال الفراء‏:‏ أصله من القلاب، وهو داء يصيب الإبل، وزاد الأصمعى‏:‏ يشتكى البعير منه قلبه، فيموت من يومه، فقيل‏:‏ ذلك لكل سالم ليست به علة‏.‏

وقال ابن الأعرابى‏:‏ معناه‏:‏ ليست به علة يقلب لها فينظر إليه‏.‏

باب لا تَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ

فيه‏:‏ ابْن أَبِى أَوْفَى، قَالَ النَّبِىّ، صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ‏)‏‏.‏

وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم وزاد‏:‏ ‏(‏فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا‏)‏‏.‏

نهى الرسول أمته عن تمنى لقاء العدو؛ ولأنه لا يعلم ما يئول أمره إليه ولا كيف ينجو منه، وفى ذلك من الفقه النهى عن تمنى المكروهات، والتصدى للمحذورات، ولذلك سأل السلف العافية من الفتن والمحن؛ لأن الناس مختلفون فى الصبر على البلاء، ألا ترى الذى أحرقته الجراح فى بعض المغازى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتل نفسه، وقال الصديق‏:‏ ‏(‏لأن أعافى فأشكر أحب إلى من أن أبتلى فأصبر‏)‏‏.‏

وروى عن على بن أبى طالب أنه قال لابنه‏:‏ ‏(‏يا بنى لا تدعون أحدًا إلى المبارزة ومن دعاك إليها فاخرج إليه؛ لأنه باغ، والله تعالى قد ضمن نصر من بغى عليه‏)‏‏.‏

وأما أقوال الفقهاء فى المبارزة، فذكر ابن المنذر قال‏:‏ أجمع كل من نحفظ عنه من العلماء أن على المرء أن يبارز، ويدعو إلى البراز بإذن الإمام، غير الحسن البصرى؛ فإنه يكره المبارزة ولا يعرفها، هذا قول الثورى، والأوزاعى، وأحمد، وإسحاق‏.‏

وأباحت طائفة البراز، ولم يذكر بإذن الإمام ولا بغير إذنه، هذا قول مالك، والشافعى، وسئل مالك عن الرجل يقول بين الصفين‏:‏ من يبارز‏؟‏ قال‏:‏ ذلك إلى نيته، إن كان يريد به وجه الله فأرجو أن لا يكون به بأس، قد كان يفعل ذلك من مضى‏.‏

وقال أنس بن مالك‏:‏ قد بارز البراء بن مالك مرزبان الزارة فقتله‏.‏

وقال أبو قتادة‏:‏ ‏(‏بارزت رجلا يوم حنين فقتلته، وأعطانى النبى صلى الله عليه وسلم سلبه‏)‏ وليس فى خبره أنه استأذن الرسول فى ذلك، واختلفوا فى معونة المسلم المبارز على المشرك، فرخص فى ذلك الشافعى، وأحمد، وإسحاق، وذكر الشافعى قضية حمزة وعبيدة، ومعونة بعضهم بعضا، قال‏:‏ فأما إن دعا مسلم مشركًا، أو مشرك مسلمًا إلى أن يبارزه، وقال له‏:‏ لا يقاتلك غيرى أحببت أن يكف عن أن يحمل عليه غيره‏.‏

وكان الأوزاعى يقول‏:‏ لا تعينوه على هذا‏.‏

قيل للأوزاعى‏:‏ وإن لم يشترط ألا يخرج إليه غيره‏؟‏ قال‏:‏ وإن لا؛ لأن البارزة إنما تكون على هذا، ولو حجزوا بينهما ثم خلوا سبيل العلج المبارز، فإن أعان العدو صاحبهم فلا بأس أن يعين المسلمون صاحبهم‏.‏

باب‏:‏ الحَرْبُ خَدْعَةٌ

فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏هَلَكَ كِسْرَى، ثُمَّ لا يَكُونُ كِسْرَى بَعْدَهُ، وَقَيْصَرٌ لَيَهْلِكَنَّ، ثُمَّ لا يَكُونُ قَيْصَرٌ بَعْدَهُ، وَلَتُنَفَقَنَّ كُنُوزُهَا فِى سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ سَمَّى الْحَرْبَ خَدْعَةً‏)‏‏.‏

وفيه‏:‏ جَابِر، قَالَ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الْحَرْبُ خَدْعَةٌ‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ ذكر بعض أهل السير أن النبى صلى الله عليه وسلم قال هذا يوم الأحزاب لما بعث نعيم ابن مسعود أن يحول بين قريش وغطفأن ويهود، ومعناه أن المماكرة فى الحرب أنفع من المكاثرة والإقدام على غير علم، ومنه قيل‏:‏ نفاذ الرأى فى الحرب أنفذ من الطعن والضرب‏.‏

وقال المهلب‏:‏ الخداع فى الحرب جائز كيفما أمكن ذلك إلا بالأيمان والعهود والتصريح بالأيمان، فلا يحل شيء من ذلك‏.‏

قال الطبرى‏:‏ فإنما يجوز من الكذب فى الحرب ما يجوز فى غيرها من التعريض مما ينحى به نحو الصدق مما يحتمل المعنى الذى فيه الخديعة والغدر والألغاز، لا القصد إلى الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو عليه‏.‏

قال المهلب‏:‏ ومن ذلك أن يقول للمبارز له‏:‏ خذ حزام فرسك، قد انحل؛ يشغله عن الاحتراس منه فيجد فرصة، وهو يريد أن حزام سرجه قد انحل فيما مضى من الزمان، أو يخيره بخبر يفظعه من موت أميره وهو يريد موت المنام أو الدين، ولا يكون قصد الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو عليه البتة؛ لأن ذلك حرام، ومن ذلك ما روى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا أراد غزو قوم ورى بغيرهم‏.‏

وقال‏:‏ حديث أبى هريرة عام فى كسرى، وخاص فى قيصر‏.‏

ومعناه‏:‏ لا قيصر بعده فى أرض الشام، وقد دعا النبى لقيصر لما قرأ كتابه أن يثبت ملكه فلم يذهب ملك الروم أصلا إلا من الجهة التى جلى منها‏.‏

وأما كسرى فمزق كتاب رسول الله فدعا عليه النبى صلى الله عليه وسلم أن يمزق ملكه كل ممزق، فانقطع إلى اليوم‏.‏

وفيه‏:‏ من علامات النبوة إخباره صلى الله عليه وسلم أن كنوزهما ستنفق فى سبيل الله، فكان كذلك‏.‏

وفى قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الحرب خدعة‏)‏ لغات، قال سلمة بن عاصم تلميذ الفراء‏:‏ من قال الحرب خدعة فهو يخدع وإذا خدع أحد الفريقين صاحبه فكأنها خدعت هى، ومن قال‏:‏ خدعة، فقد وصفها باسم المصدر، فيحتمل أن يكون فى معنى خدعة تخدعه أى‏:‏ هى تخدع وصف المفعول بالمصدر، كما تقول‏:‏ درهم ضرب الأمير، وإنما هو مضروب الأمير‏.‏

وقال بعض أهل اللغة‏:‏ معنى الخدعة‏:‏ المرة الواحدة‏.‏

أى‏:‏ من خدع فيها مرة واحدة لم تقل العثرة بعدها‏.‏

وقال ثعلب‏:‏ الحرب خدعة، هذه أفصح اللغات بفتح الخاء وإسكان الدال، قال‏:‏ وذكر لى أنها لغة النبى صلى الله عليه وسلم‏.‏

باب‏:‏ الكذب فى الحرب

فيه‏:‏ جَابِر، قَالَ النَّبِىّ، صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَنْ لِكَعْبِ بْنِ الأشْرَفِ، فَإِنَّهُ آذَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ‏)‏‏؟‏ قَالَ‏:‏ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ‏:‏ أَتُحِبُّ أَنْ أَقْتُلَهُ، يَا رَسُولَ اللَّهِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏نَعَمْ‏)‏، قَالَ‏:‏ فَأَتَاهُ، فَقَالَ‏:‏ إِنَّ هَذَا- يَعْنِى محمدًا- قَدْ عَنَّانَا، وَسَأَلَنَا الصَّدَقَةَ، قَالَ أَيْضًا‏:‏ وَاللَّهِ لَتَمَلُّنَّهُ، قَالَ‏:‏ فَإِنَّا قَدِ اتَّبَعْنَاهُ، فَنَكْرَهُ أَنْ نَدَعَهُ حَتَّى نَنْظُرَ إِلَى مَا يَصِيرُ أَمْرُهُ، قَالَ‏:‏ فَلَمْ يَزَلْ يُكَلِّمُهُ حَتَّى اسْتَمْكَنَ مِنْهُ فَقَتَلَهُ‏.‏

قال المؤلف‏:‏ روى ابن شهاب عن حميد بن عبد الرحمن، عن أم كلثوم قالت‏:‏ ‏(‏ما سمعت النبى صلى الله عليه وسلم رخص فى الكذب إلا فى ثلاث كان صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ لا أعدهن كذبًا الرجل يصلح بين الناس، والرجل يحدث زوجته، والرجل يقول فى الحرب‏)‏‏.‏

فسألت بعض شيوخى عن معنى هذا الحديث، فقال لى‏:‏ إن الكذب الذى أباحه صلى الله عليه وسلم فى الحرب هى المعاريض التى لا يفهم منها التصريح بالتأمين؛ لأن من السنة المجتمع عليها أن من أمن كافرا فقد حقن دمه، ولهذا قال عمر بن الخطاب‏:‏ يتبع أحدكم العلج حتى إذا اشتد فى الجبل قال له‏:‏ مترس، ثم قتله، والله لا أوتى بأحد فعل ذلك إلا قتلته‏.‏

وقال المهلب‏:‏ موضع الكذب من هذا الحديث قول محمد بن مسلمة‏:‏ قد عنانا وسألنا الصدقة؛ لأن هذا الكلام يحتمل أن يتأول منه أن اتباعهم له إنما هو للدنيا على نية كعب ابن الأشرف، وليس هو بكذب محض بل هو تورية ومن معاريض الكلام؛ لأنه ورى له عن الحق الذى اتبعوه له فى الآخرة، وذكر العناء الذى يصيبهم فى الدنيا والنصب، أما الكذب الحقيقى فهو الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو به، وليس فى قول ابن مسلمة إخبار عن الشيء على خلاف ما هو به، وإنما هو تحريف لظاهر اللفظ، وهو موافق لباطن المعنى‏.‏

ولا يجوز الكذب الحقيقى فى شيء من الدين أصلا، ومحال أن يأمر بالكذب وهو صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏من كذب على متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار‏)‏ وإنما أذن له أن يقول ما لو قاله بغير إذن النبى صلى الله عليه وسلم وسمع منه لكان دليلا على النفاق، ولكن لما أذن له فى القول لم يكن معدودًا عليه أنه نفاق، وسيأتى فى كتاب الصلح زيادة فى هذا المعنى فى ‏(‏باب ليس الكاذب الذى يصلح بين الناس‏)‏ إن شاء الله تعالى‏.‏

باب‏:‏ الفتك فى الحرب

- فيه‏:‏ جَابِر، قَالَ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَنْ لِكَعْبِ بْنِ الأشْرَفِ‏)‏، فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ‏:‏ أَتُحِبُّ أَنْ أَقْتُلَهُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏نَعَمْ‏)‏، قَالَ‏:‏ فَأْذَنْ لِى فَأَقُولَ، قَالَ‏:‏ قَدْ فَعَلْتُ‏.‏

الفتك فى الحرب على وجهين‏:‏ أحدهما محرم، والثانى جائز، فالفتك الذى يحرم به الدم أن يصرح بلفظ يفهم منه التأمين‏.‏

فإذا أمنه فقد حرم بذلك دمه والغدر به وعلى هذا جماعة العلماء، وأما الوجه المباح منه فهو أن يخادعه بألفاظ هى معاريض غير تصريح بالتأمين، فهذا يجوز؛ لأن الحرب خدعة‏.‏

قال المؤلف‏:‏ واختلف فى تأويل قتل ابن الأشرف على وجوه‏:‏ فقيل‏:‏ إن قتله هو من هذا الباب المباح؛ لأن ابن مسلمة لم يصرح له بشيء من لفظ التأمين، وإنما أتاه بمعاريض من القول فيجوز هذا أن يسمى‏:‏ فتكًا على المجاز‏.‏

وفيه وجه آخر قاله بعض شيوخنا قال‏:‏ إن قتل ابن الأشرف هو من باب أن من آذى الله ورسوله قد حل دمه، ولا أمان له يعتصم به فقتله جائز على كل حال؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما قتله بوحى من الله وأذن فى قتله فصار ذلك أصلا فى جواز قتل من كان لله ولرسوله حربًا، عن الطبري‏.‏

قال غيره‏:‏ ألا ترى لو أن رجلا أدخل رجلا مشركًا فى داره فأمنه فسب عنده النبى صلى الله عليه وسلم حل بذلك للذى أمنه قتله، ونحو هذا ما حكاه ابن حبيب، قال‏:‏ سمعت المدنيين من أصحاب مالك يقولون‏:‏ إنما تجب الدعوة لكل من لم يبلغه الإسلام، ولا يعلم ما يقاتل عليه، فأما من قد بلغه الإسلام، وعلم ما يدعى إليه، ومن حارب وحورب مثل الروم والإفرنج، فالدعوة فيما بيننا وبينهم مطرحة ولا بأس بتبييت مثل أولئك بالغارة وتصبيحهم، وانتهاز الفرصة فيهم بلا دعوة، وقد بعث رسول الله عبد الله بن أنيس الجهنى إلى عبد الله ابن نبيح الهذلى فاغتاله بالقتل، وهو بعرفة من جبال عرفة، وبعث نفرًا من الأنصار إلى ابن أبى الحقيق، وإلى كعب بن الأشرف فهجموا عليهما بالقتل فى بيوتهما بخيبر‏.‏

قال المؤلف‏:‏ فلا يجوز أن يقال‏:‏ إن ابن الأشرف قتل غدرًا؛ لأنه لم يكن معاهدًا، ولا كان من أهل الذمة، ومن قال‏:‏ إنه قتل غدرًا فهو كافر ويقتل بغير استتابة؛ لأنه تنقص النبى صلى الله عليه وسلم ورماه بكبيرة، وهو الغدر وقد نزهه الله عن كل دنية، وطهره من كل ريبة‏.‏

ألا ترى قول هرقل لأبى سفيان‏:‏ سألتك‏:‏ هل يغدر‏؟‏ فزعمت أن لا، وكذلك الرسل لا يغدرون، وإنما قال هذا هرقل؛ لأنه وجد فى الإنجيل صفته، وصفة جميع الأنبياء عليهم السلام أنه لا يجوز عليهم صفات النقص؛ لأنهم صفوة الله وهم معصومون من الكبائر، والغدر كبيرة، وسيأتى فى كتاب الرهون فى باب ‏(‏رهن السلاح‏)‏ زيادة فى معنى قتل كعب بن الأشرف إن شاء الله‏.‏

وروى فى الأثر أن ‏(‏تاس السبائى‏)‏ قال فى مجلس على بن أبى طالب‏:‏ إن ابن الأشرف قتل غدرًا‏.‏

فأمر به على فضرب عنقه‏.‏

وقد قال مالك‏:‏ من تنقص النبى صلى الله عليه وسلم فإنه يقتل، ومن قال‏:‏ إن زر النبى صلى الله عليه وسلم وسخة يريد بذلك الإزراء عليه قتل، قال‏:‏ ومن سبه قتل بغير استتابة إن كان مسلمًا، وإن كان ذميا قتل قبل أن يسلم‏.‏

وقال الكوفيون‏:‏ من سب النبى فقد ارتد، وإن كان ذميا عزر ولم يقتل، وسيأتى تمام هذه المسألة، والحجة فيها فى موضعه إن شاء الله‏.‏

باب مَا يَجُوزُ مِنَ الاحْتِيَالِ وَالْحَذَرِ مَعَ مَنْ يَخْشَى مَعَرَّتَهُ

- فيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، انْطَلَقَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم وَمَعَهُ أُبَىُّ قِبَلَ ابْنِ صَيَّادٍ، فَحُدِّثَ بِهِ فِى نَخْلٍ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ طَفِقَ يَتَّقِى بِجُذُوعِ النَّخْلِ، وَابْنُ صَيَّادٍ فِى قَطِيفَةٍ لَهُ فِيهَا رَمْرَمَةٌ، فَرَأَتْ أُمُّ ابْنِ صَيَّادٍ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ‏:‏ يَا صَافِ، هَذَا مُحَمَّدٌ، فَوَثَبَ ابْنُ صَيَّادٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لَوْ تَرَكَتْهُ بَيَّنَ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ فيه الترجمة، وفيه ألا يجعل على من ظهر منه مكروه؛ حتى يتيقن أمره، وفيه أن الإمام إذا أشكل عليه أمر من جهة الشهادات عنده أن يلى ذلك بنفسه، فيباشره؛ حتى يسمع ما نقل إليه ويرى ما شهد به عنده، فبالعيان تنكشف الريب‏.‏

وفيه نهوض السلطان راجلا ليعرف ما يحتاج إليه، وفيه زجر أهل الباطل بزجر الكلاب، وفيه ترك عقوبة غير البالغ من الرجال، وقد تقدم فى ‏(‏كتاب الجنائز‏)‏ فى باب‏:‏ ‏(‏هل يعرض على الصبى الإسلام‏)‏ شيء من معنى هذا الحديث، وسيأتى شيء منه فى ‏(‏كتاب الاعتصام‏)‏ فى باب ‏(‏من رأى ترك النكير حجة لا من غير الرسول‏)‏‏.‏

باب الرَّجَزِ فِى الْحَرْبِ وَرَفْعِ الصَّوْتِ فِى حَفْرِ الْخَنْدَقِ

فيه‏:‏ سَهْلٌ وَأَنَسٌ، عَنِ الرسول صلى الله عليه وسلم، وَيَزِيدُ، عَنْ سَلَمَةَ‏.‏

وفيه‏:‏ الْبَرَاءِ، قَالَ‏:‏ رَأَيْتُ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْخَنْدَقِ، وَهُوَ يَنْقُلُ التُّرَابَ حَتَّى وَارَى التُّرَابُ شَعَرَ صَدْرِهِ، وَكَانَ كَثِيرَ الشَّعَرِ، وَهُوَ يَرْتَجِزُ بِرَجَزِ عَبْدِ اللَّهِ‏:‏

اللَّهُمَّ لَوْلا أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا ***

إلى قوله‏:‏

إِذَا أَرَادُوا فِتْنَةً أَبَيْنَا ***

وَيَرْفَعُ بِهَا صَوْتَهُ‏.‏

قال المهلب‏:‏ فيه ابتذال الإمام وتوليه المهنة فى التحصين على المسلمين لينشط الناس بذلك على العمل، ولذلك ارتجز هذا الرجز ليذكرهم ما يعملون ولمن يعملون ذلك، ويعرفهم أن الأمر أعظم خطرًا من ابتذالهم وتعبهم‏.‏

وفيه أنه لا بأس برفع الصوت فى أعمال الطاعات إذا لم يكن مضعفًا عنها ولا قاطعًا دونها‏.‏

باب‏:‏ مَنْ لاَ يَثْبُتَ عَلَى الخَيْلِ

فيه‏:‏ جَرِيرٍ، مَا حَجَبَنِى النَّبِىُّ، صلى الله عليه وسلم مُنْذُ أَسْلَمْتُ وَلا رَآنِى إِلا تَبَسَّمَ فِى وَجْهِى، وَلَقَدْ شَكَوْتُ إِلَيْهِ إِنِّى لا أَثْبُتُ عَلَى الْخَيْلِ، فَضَرَبَ بِيَدِهِ فِى صَدْرِى، وَقَالَ‏:‏ ‏(‏اللَّهُمَّ ثَبِّتْهُ، وَاجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا‏)‏‏.‏

فيه أن الرجل الوجيه فى قومه له حرمة ومكانة على من هو دونه؛ لأن جريرًا كان سيد قومه‏.‏

وفيه أن لقاء الناس بالتبسم وطلاقة الوجه من أخلاق النبوة، وهو مناف للتكبر وجالب للمودة‏.‏

وفيه فضل الفروسية وإحكام ركوب الخيل وأن ذلك مما ينبغى أن يتعلمه الرجل الشريف والرئيس‏.‏

وفيه أنه لا بأس للعالم والإمام إذا أشار إلى إنسان فى مخاطبته أو غيرها أن يضع عليه يده، ويضرب بعض جسده، وذلك من التواضع وفيه استمالة النفوس‏.‏

وفيه بركة دعوة النبى؛ لأنه قد جاء فى هذا الحديث أنه ما سقط بعد ذلك من الخيل‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏هاديًا مهديًا‏)‏ من باب التقديم والتأخير الذى فى كلام العرب؛ لأنه لا يكون هاديًا لغيره إلا بعد أن يهتدى هو ويكون مهديًا‏.‏

باب مَا يُكْرَهُ مِنَ التَّنَازُعِ وَالاخْتِلافِ فِى الْحَرْبِ وَعُقُوبَةِ مَنْ عَصَى إِمَامَهُ

وقوله‏:‏ ‏(‏وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا‏}‏ الآية ‏[‏الأنفال‏:‏ 46‏]‏‏.‏

فيه‏:‏ أَبُو مُوسى، بَعَثَ الرسول صلى الله عليه وسلم مُعَاذًا وَأَبَا مُوسَى إِلَى الْيَمَنِ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏يَسِّرَا وَلا تُعَسِّرَا، وَبَشِّرَا وَلا تُنَفِّرَا، وَتَطَاوَعَا وَلا تَخْتَلِفَا‏)‏‏.‏

فيه‏:‏ الْبَرَاءَ، جَعَلَ النَّبِىُّ، عَلَى الرَّجَّالَةِ يَوْمَ أُحُدٍ- وَكَانُوا خَمْسِينَ رَجُلا- عَبْدَاللَّهِ بْنَ جُبَيْرٍ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏إِنْ رَأَيْتُمُونَا تَخْطَفُنَا الطَّيْرُ، فَلا تَبْرَحُوا مَكَانَكُمْ هَذَا، حَتَّى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ، وَإِنْ رَأَيْتُمُونَا هَزَمْنَا الْقَوْمَ وَأَوْطَأْنَاهُمْ، فَلا تَبْرَحُوا حَتَّى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ‏)‏، فَهَزَمُوهُمْ، قَالَ‏:‏ فَأَنَا وَاللَّهِ رَأَيْتُ النِّسَاءَ يَشْدُدُنَ، قَدْ بَدَتْ خَلاخِلُهُنَّ وَسْوُقُهُنَّ، رَافِعَاتٍ ثِيَابَهُنَّ، قَالَ أَصْحَابُ عَبْدِاللَّهِ بْنِ جُبَيْرٍ‏:‏ الْغَنِيمَةَ، أَىْ قَوْمِ الْغَنِيمَةَ، ظَهَرَ أَصْحَابُكُمْ، فَمَا تَنْتَظِرُونَ‏؟‏ فَقَالَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ جُبَيْرٍ، أَنَسِيتُمْ مَا قَالَ لَكُمْ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏؟‏ قَالُوا‏:‏ وَاللَّهِ، لَنَأْتِيَنَّ النَّاسَ فَلَنُصِيبَنَّ مِنَ الْغَنِيمَةِ، فَلَمَّا أَتَوْهُمْ، صُرِفَتْ وُجُوهُهُمْ فَأَقْبَلُوا مُنْهَزِمِينَ فَذَاكَ إِذْ يَدْعُوهُمْ الرَّسُولُ فِى أُخْرَاهُمْ، فَلَمْ يَبْق مَعَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم إلا اثْنَىْ عَشَرَ رَجُلا، فَأَصَابُوا مِنَّا سَبْعِينَ، وَكَانَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ أَصَابُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ أَرْبَعِينَ وَمِائَةً، سَبْعِينَ أَسِيرًا، وَسَبْعِينَ قَتِيلا‏.‏

فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ‏:‏ أَفِى الْقَوْمِ مُحَمَّدٌ، ثَلاثَ مَرَّاتٍ‏؟‏ فَنَهَاهُمُ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُجِيبُوهُ، ثُمَّ قَالَ‏:‏ أَفِى الْقَوْمِ ابْنُ أَبِى قُحَافَةَ، ثَلاثَ مَرَّاتٍ‏؟‏ ثُمَّ قَالَ‏:‏ أَفِى الْقَوْمِ ابْنُ الْخَطَّابِ، ثَلاثَ مَرَّاتٍ‏؟‏ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ‏:‏ أَمَّا هَؤُلاءِ، فَقَدْ قُتِلُوا، فَمَا مَلَكَ عُمَرُ نَفْسَهُ، فَقَالَ‏:‏ كَذَبْتَ وَاللَّهِ يَا عَدُوَّ اللَّهِ، إِنَّ الَّذِينَ عَدَدْتَ لأحْيَاءٌ كُلُّهُمْ، وَقَدْ بَقِىَ لَكَ مَا يَسُوءُكَ، قَالَ‏:‏ يَوْمٌ بِيَوْمِ بَدْرٍ، وَالْحَرْبُ سِجَالٌ، إِنَّكُمْ سَتَجِدُونَ فِى الْقَوْمِ مُثْلَةً لَمْ آمُرْ بِهَا، وَلَمْ تَسُؤْنِى، ثُمَّ أَخَذَ يَرْتَجِزُ‏:‏ أُعْلُ هُبَلْ أُعْلُ هُبَلْ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أَفَلاَ تُجِيبُوه‏)‏‏؟‏ قَالُوا‏:‏ مَا نَقُولُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏قُولُوا‏:‏ اللَّهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ‏)‏، قَالَ‏:‏ إِنَّ لَنَا الْعُزَّى وَلا عُزَّى لَكُمْ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أَلا تُجِيبُوه‏)‏‏؟‏ قَالَ‏:‏ قَالُوا‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا نَقُولُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ قُولُوا‏:‏ ‏(‏اللَّهُ مَوْلانَا وَلا مَوْلَى لَكُمْ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ التنازع والخلاف هو سبب الهلاك فى الدنيا والآخرة؛ لأن الله تعالى قد عبر فى كتابه بالخلاف الذى قضى به على عباده عن الهلاك فى قوله‏:‏ ‏(‏ولا يزالون مختلفين ‏(‏ثم قال‏:‏ ‏(‏ولذلك خلقهم ‏(‏فقال قوم‏:‏ خلقهم للخلاف‏.‏

وقال آخرون‏:‏ خلقهم ليكونوا‏:‏ فريق فى الجنة وفريق فى السعير من أجل اختلافهم‏.‏

وهذا كثير فى كتاب الله، وقد أخبر الله تعالى- أن مع الخلاف يكون الفشل والكسل، فيتمكن العدو من المخالفين؛ لأنهم كانوا كلهم مدافعين دفاعًا واحدًا، فصار بعضهم يدافع بعضًا، فتمكن العدو‏.‏

وفى حديث عبد الله بن جبير معاقبة الله على الخلاف، وعلى ترك الائتمار للرسول والوقوف عند قوله كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم‏}‏‏.‏

وفى قوله‏:‏ ‏(‏حتى تخطفنا الطير‏)‏ دليل على جواز الإغياء فى الكلام‏.‏

وفيه بيان أن النبى لم ينهزم كل أصحابه‏.‏

ونهى النبى صلى الله عليه وسلم عن جواب أبى سفيان تصاون عن الخوض فيما لا فائدة فيه، وإجابة عمر بعد نهى النبى إنما هى حماية للظن بالنبى صلى الله عليه وسلم أنه قتل، وأن بأصحابه الوهن، فليس فى هذا عصيان للنبى فى الحقيقة، وإن كان عصيانًا فى الظاهر، فهو مما يؤجر به‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏قد بقى لك ما يسوؤك‏)‏ أرهب عليه لما ظن به الوقيعة، وكسر شوكة الإسلام، وأنه قد مضى النبى وسادة أصحابه، فعرفهم أنهم أحياء، وأنه قد بقى له ما يسوؤه‏.‏

و ‏(‏هبل‏)‏ صنم كانوا يعبدونه فى الجاهلية، وأمر النبى بجوابه؛ لأنه بعث بإعلاء كلمة الله تعالى وإظهار دينه، فلما كلم هذا الكلام لم يسعه السكوت عنه، حتى تعلو كلمة الله، ثم عرفهم فى جوابه أنهم يقرون أن الله أعلى وأجل لقولهم‏:‏ ‏(‏إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى ‏(‏فلم يراجعه أبو سفيان، ولا نقض عليه كلامه، اعترافًا بما قال‏.‏

ثم ذكر صنمًا آخر فقال‏:‏ إن لنا العزى ولا عزى لكم‏.‏

فأمر الرسول بمجاوبته، وعرف فى جوابه أن العزى ومثلها من الأصنام لا موالاة لها، ولا نصر‏.‏

فقال‏:‏ الله مولانا ولا مولى لكم‏.‏

فعرف أن النصر من عند الله، وأن الموالاة والنصر لا تكون من الأصنام، فبكته بذلك، ولم يراجعه، وإنما ترك النبى مجاوبته بنفسه تهاونًا من خصام مثله، وأمر من ينوب عنه تنزهًا عنه‏.‏

وقال الخطابى‏:‏ ‏(‏إن رأيتمونا تخطفنا الطير‏)‏ مثل، والمعنى‏:‏ إن رأيتمونا قد انهزمنا وولينا، فلا ترجعوا‏.‏

يقال‏:‏ فلان ساكن الطير، وواقع الطير إذا كان هاديًا وقورًا‏.‏

وضرب المثل بالطير؛ لأنه لا يقع إلا على الشيء الساكن، ويقال للإنسان إذا طاش وأسرع‏:‏ قد طار طيره‏.‏

باب‏:‏ مَنْ رَأَى العَدُوَّ فَنَادَى بِصَوْتِهِ يَا صَبَاحَاهْ حَتَى يُسْمِعَ النَّاسَ

فيه‏:‏ سَلَمَةَ، خَرَجْتُ مِنَ الْمَدِينَةِ ذَاهِبًا نَحْوَ الْغَابَةِ، حَتَّى إِذَا كُنْتُ بِثَنِيَّةِ الْغَابَةِ لَقِيَنِى غُلامٌ لِعَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، فَقُلْتُ‏:‏ وَيْحَكَ، مَا بِكَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ قَدْ أُخِذَتْ لِقَاحُ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قُلْتُ‏:‏ مَنْ أَخَذَهَا‏؟‏ قَالَ‏:‏ غَطَفَانُ وَفَزَارَةُ، فَصَرَخْتُ ثَلاثَ صَرَخَاتٍ، أَسْمَعْتُ مَا بَيْنَ لابَتَيْهَا‏:‏ يَا صَبَاحَاهْ، يَا صَبَاحَاهْ، ثُمَّ انْدَفَعْتُ حَتَّى أَلْقَاهُمْ، وَقَدْ أَخَذُوهَا، فَجَعَلْتُ أَرْمِيهِمْ، وَأَقُولُ‏:‏ أَنَا ابْنُ الأكْوَعِ وَالْيَوْمُ يَوْمُ الرُّضَّعْ فَاسْتَنْقَذْتُهَا مِنْهُمْ قَبْلَ أَنْ يَشْرَبُوا، فَأَقْبَلْتُ بِهَا أَسُوقُهَا، فَلَقِيَنِى النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ الْقَوْمَ عِطَاشٌ، وَإِنِّى أَعْجَلْتُهُمْ أَنْ يَشْرَبُوا سِقْيَهُمْ، فَابْعَثْ فِى إِثْرِهِمْ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏يَا ابْنَ الأكْوَعِ، مَلَكْتَ، فَأَسْجِحْ، إِنَّ الْقَوْمَ يُقْرَوْنَ فِى قَوْمِهِمْ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ فيه وجوب النذير بالعسكر والسرية بالصراخ بكلمة تدل على ذلك‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏يا صباحاه‏)‏ معناه‏:‏ قد أغير عليكم فى الصباح، أو قد صوبحتم فخذوا حذركم‏.‏

وفيه جواز الأخذ بالشدة، ولقاء الواحد أكثر من المثلين؛ لأن سلمة كان وحده، وألقى بنفسه إلى التهلكة، وفيه تعريف الإنسان بنفسه فى الحرب شجاعته وتقدمه‏.‏

وسيأتى فى الباب بعد هذا زيادة فى ذلك، وفيه فضل الرماية؛ لأنه وحده قاومهم بها ورد الغنيمة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏واليوم يوم الرضع‏)‏ فيه أقوال للعلماء‏:‏ قيل‏:‏ معناه أن من أرضعته الحرب من صغره، فهو الظاهر، وقيل‏:‏ معناه أن اليوم يعرف من رضع كريمة أو من رضع لئيمة، فيبدو فعله فى الدفع عن حريمه‏.‏

وقال الخطابى‏:‏ معناه أن اليوم يوم هلاك اللئام من قولهم‏:‏ لئيم رضع، وهو الذى يرضع الغنم لا يحلبها، فيسمع صوت الحلب‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏فاستنقذتها منهم قبل أن يشربوا‏)‏ يعنى‏:‏ الماء، وعلى ذلك يدل قوله‏:‏ ‏(‏إن القوم عطاش‏)‏ يحضه على اتباعهم وإهلاكهم، فقال له صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ملكت فأسجح‏)‏ أى‏:‏ استنقذت الغنيمة فملكتها وملكت الحماية فأسجح‏.‏

أى ارفق ولا تبالغ فى المطالبة، فربما عادت عليك كسرة من حيث لا تظن، فبعد أن كنت ظفرت يظهر بك، وقال ذلك صلى الله عليه وسلم رجاء توبة منهم، ودخول فى الإسلام‏.‏

وقوله‏:‏ إن القوم ‏(‏يقرون‏)‏ يعنى‏:‏ أنهم سيلقون أول بلادهم فيطعمون ويسقون قبل أن تبلغ منهم ما تريد، ومن روى ‏(‏يقرون‏)‏ جعل القرى لهم أنهم يضيفون الأضياف، فراعى لهم صلى الله عليه وسلم حق ذلك ورجا أن يتوب الله عليهم‏.‏